قتلني سياسي انفصالي بارز ضحكاً حين انتقد مرة مقالاً لي يحذر من استئثار مليشيات البيض الحراكية المسلحة بالسلطة بعد أن يتحقق له الانفصال بحد البندقية وعودة الجنوبيين لعبودية الفرد والطغمة، قائلاً "نحن الجنوبيون حذرون من البيض ذو العقلية القديمة والذي يكرهه أبناء الجنوب في اليمن ولن نسمح له بحكمنا بعد تحقيق الانفصال"!!
لا أدري أي غباء سياسي استفحل بهذا السياسي وأمثاله من المغامرين إلى الحد الذي قاده إلى عدم تخيل سيناريو الانفصال المسلح وعدم تحليل الواقع والمعطيات ليبني عليها النتائج في وضع وطني ودولي يقول للانفصال (مستحيل) ومحلي جنوبي شديد الانقسام تجسد جلياً في ساحة العروض بعدن في يناير وفبراير وبخاصة الحراك نفسه المنقسم إلى عدة فصائل (قبل أن يحصلوا على السلطة)!! وتتوج السخرية في مقولات المصرين منهم على الانفصال بقولهم (دعونا ننفصل أولاً وليحدث لنا ما يحدث!).. سأترك لكم قراءة هذا الدرس التاريخي ضمن الفقرات التالية الثلاث ولنعد إلى حديثنا المضحك بعدها..
في الماضي القريب، كان الرئيس علي ناصر محمد يدرك طبيعة الأطماع الروسية، عبر رجالاتها في الدولة اليمنية، للسيطرة على موقع جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وخطر ذلك على تنمية البلاد وتطورها نحو الأفضل بعد أن ظلت طويلاً تحت رحمة فتيل البارود والانقسامات الحادة لأيدلوجيات الحزب الفارغة. وهنا بزغت الرغبة الرئاسية في الدوران بأكبر سرعة ممكنة ليسعى في إعادة اليمن الديمقراطية إلى موقعها الانتاجي الطبيعي ضمن الوطن العربي، بدءاً بالتعاقد مع شركة توتال النفطية الفرنسية للتنقيب واستخراج النفط من حضرموت وإعادة العلاقة مع الجامعة العربية المقطوعة منذ عقد مضى، إلا أنه أُتُهم من الخصوم السياسيين بأنه نقل البلد من الدائرة الحمراء إلى الدائرة العربية مما كان يعد خيانة عظيمة في نظرهم.
ويتابع الرئيس علي ناصر متحدثا لمجلة "الوسط" اللندنية- عام 94م "باختصار، ومهما كانت الأسباب والدوافع، فالواقع أن اليمنيين كانوا أدوات هذه الصراعات ووقودها، وقد خسرنا رفاقاً من الطرفين منذ بداية 1968، وشكل هذا خسارة فادحة للوطن وللثورة، وكان الشعب دائما هو الخاسر الأكبر. فكل حرب من هذا النوع تقتل الحاضر وتدمر المستقبل.. ومع الأسف أن أحداً لم يع الدرس قبل الوحدة وبعدها."
وما أشبه اليوم بالبارحة... نفس الشخوص ونفس الأطراف ونفس الأدوار ونفس الأحداث تتكرر من جديد وسط بَلادة شعبية تتسم بالتضليل وضعف الذاكرة العجيبة مما حدث وبوجود الأبطال التاريخيين أنفسهم الذين لم يتعلموا منذ الستينات.. لكن لندع الرئيس يكمل حديثه عن شيء مهم ومشابه لما يحدث "لعل مصطلح "قوس الأزمات" يعبر بدقة عن طبيعة الصراع المتفجر الذي شهدته اليمن الديمقراطية منذ وقت مبكر من الاستقلال أو قبله بقليل حتى 86م، وقد أفردت فصولاً كاملة في مذكراتي عن هذا الصراع وخلفياته وأسميتها "صراعات القصر".. وهي صراعات كانت تحركها الطموحات الشخصية وحسابات السيطرة والقوة، والمصالح الخاصة التي ترتدي أهدافاً كافة وبعناوين عامة، كانت هناك أسباب لهذه الصراعات بعضها يصب في خانة الموضوعي وبعضها في حساب الذاتي، هناك أسباب موضوعية للصراع مثل الصراع الدولي على الموقع الاستراتيجي لليمن الديمقراطية، والتخلف وغياب الديمقراطية، وانعدام الحوار وهناك التحديات التي يفرضها مسار التغيير والاختلاف في النظرة إلى الوحدة اليمنية."
في يمن 2013 ، يعود أبطال حكاية 1986 إلى ذات مواقعهم بين الزمرة الممسكة بزمام السلطة الشرعية وبتأييد دولي وشعبي غير مسبوق والطغمة التي تسعى لأيٍ كان ليدعمها ولو كان الشيطان نفسه، ذلك الشيطان الذي يهدد ويعادي الجيران قبل بقية العالم وشياطينه. وتضاف إلى أبطال المسرح الجنوبي أبطال آخرون جدد هم الاسلاميون الجنوبيون بسلفييهم واصلاحييهم وقاعدتهم وهم من يشاطرون أشد العداء للبيض ورفاقه وإلى وجود الأيادي الشيعية الفارسية في بلادهم وهو الأمر الذي لن يتقبلونه ولو كان الثمن هو إبقاء أمور الجنوب إلى ماكان عليه زمن الرئيس السابق!
تعود طغمة البيض وزبانيته اليوم إلى ذات النظريات الجدلية القديمة بشمولية النظرة المصرة على شرعية رؤيتها بأحقيتها في فرض قرارها المنفرد بانفصال البلاد والاستئثار بالسلطة فيها دون ديمقراطية ولا حوار ولا احتكام إلى إرادة شعبية في ظل بيئة شديدة التوازن والمبشرة بحوار وطني مفتوح لم يسبق له مثيل. يضللون على أقرانهم بالإنفصال بشفرة البيض ورائحة البارود الفارسي المنتن. وهم، إذا تحقق حلمهم الانفصالي المستحيل (بفضل عدم شرعيتها الدستورية والشعبية والموقف الدولي وخاصة الأممي الواضح منها والمهتم بالقضية اليمنية وتحقيق المبادرة) فستتم حقيقتان حتميتان تضربان بالجنوب أولاً بشكل كارثي:
أولاً: عند تنفيذ مشروع الانفصال، سيكون جميع أبناء الجنوب هم أول من سيحرق بنار البيض إذ سيصطدمون بالخط القتالي الأول وهو قتال (إخوانهم) الجنوبيين منهم الوحدويين ومنهم الواعين بنهاية مستقبلهم الذي سأوضحه لاحقاً. وسيكون القتال ضارياً بسبب أن الكثير من المعارضين سيكونون إما مستميتون مع الوحدة كما شاهدنا حجم قسمٍ منهم في ساحة العروض كالإصلاحيين وكوادر (الزمرة) المعادية لهم تقليدياً والكثير منهم بجانب الرئيس هادي وقادة عسكريين ومسئولين مدنيين أو معارضون لدخول إيران الحرب أو واعون بعودة البلد إلى جحر نفس الطغمة ذات التاريخ الشمولي البتري المقيت، خاصة وقد فشل مهرجان التصالح والتسامح الحراكي في تحقيق التسامح والتصالح على مستوى القيادات وغياب أي إعتذار قيادي جنوبي رسمي لشعبهم ولبعضهم البعض أو متعاطفون مع القاعدة في رؤيتها الشرعية بكفر البيض وأعوانه المتعاونين مع (الرافضة الكفرة) حسب بيانهم الأخير. وبالتالي فستتكون جبهة عسكرية مجتمعية متنوعة تلقائياً من أبناء الجنوب ستكون ندّاً لمشروع البيض العسكري ومن شأن كل ذلك أن تتكرر مأساة يناير 1986 لاقدر الله بالإضافة إلى تدخل الجيش المحتوم كخط أول و ثاني..
ثانياً: بعد النجاح المفترض للانفصال المسلح وتغلب جناح البيض ومناصريه على جميع الخصوم، سيكون الجناح المنتصر (البيض) هو صاحب القرار كله، وسيعتبر كل الفئات الجنوبية التي تصدت له خائنة وعميلة (للاحتلال العسكري الشمالي) وبالتالي سيتم إبادة وطرد الكثير منهم للخارج وستكون قوات البيض هي الحاكمة للأرض والمصير بقوة الأمر الواقع " De facto ruler " رضي من رضي وأبى من أبى وستتودد له الأمم المتحدة والباقين من هذا المنطلق المعروف تقليدياً في علم الأزمات. لقد أتي البيض (الذي يكرهه الجنوبيين حسب تقدير صديقي) ليحكم لا ليفعل خيراً لأنه يعتقد أنه على حق وإلا لكان اعتذر لشعبه مسبقاً وحسب. فقوات البيض ستنظر لنفسها عندئذِ بأنهم هم القوة الشرعية قانوناً وهم المستحوذون على السلاح الفارسي الثقيل بشكل حصري وهم أصحاب الكلمة والسطوة والنفوذ... وبالتالي فهم الديمقراطية وهم الحوار وهم حصراً صناع القرار.
فكيف سيستطيع صديقي السياسي وقتها التفاهم مع البيض وطغمته بالعقل أو بالحوار غير حوار فوهات المدافع وشلالات الدم الجنوبي-الجنوبي من جديد!! عفواً.. لا أسمح بأن يقرأ هذا المقال إلا المنطقي الهادئ تجنباً للشتم والألفاظ النابية المعتادة من أصحاب قضية الدولة المدنية المحترمة.