لو اهتمت إيران بشؤونها الداخلية ومشكلاتها المحلية، منذ قيام الثورة فيها قبل أكثر من ثلاثة عقود، لقدمت نموذجاً جيداً لدولة متحوّلة بفعل ثورة. فالثورات الحقيقية ليست إلا تلك التي تبني مجتمعات قادرة متمكنة، فيها من العدالة ما كان مفقوداً قبلها، وفيها من بذور الازدهار والتنمية ما كان حلماً قبل أن تحقق نصرها، وفيها من المرونة ما يمكِنها من احتواء حتى ''الأعداء'' السابقين إن وجدوا حقاً، وفيها من الحكمة ما يدفعها لبناء علاقات متوازنة مع محيطها، وكذلك مع مجتمعها الدولي. فلا غرابة إذن، من أن النظام الإيراني باشر محاربة مَن؟ المعتدلين والواقعيين والحكماء الذين كانوا جزءاً أصيلاً من الثورة، وأدوات محورية فيها، سواء من رجال الدين أو من رجال السياسة. والأسماء كثيرة: آية الله منتظري، أبو الحسن بني صدر، صادق قطب زادة، إبراهيم يزدي، مهدي بازركان، وكروبي.. إلى آخر هؤلاء الذين أرادوا للثورة أن تنتصر حقاً.
أربك العمق الاستراتيجي المفقود لإيران، مخططاتها للسيطرة على المنطقة، عن طريق تصدير ثورة تواجه مصاعب جمة في تسويقها داخلياً. ومع الأيام، تعاظمت الشريحة التي وجدت أن هذه الثورة باتت عبئاً على البلاد نفسها، فكانت الانتفاضات المتقطعة أمراً طبيعياً. ومع إقصاء الإيرانيين المعتدلين أو الباحثين عن علاقات طبيعية لبلادهم مع المنطقة والعالم، عمل النظام على فتح جيوب إقليمية لتعويض المفقود الطبيعي منها. ولأن الهدف لم يكن سياسياً في يوم من الأيام، فقد ظل طائفياً (وسيبقى)، مع بعض الاستثناءات العابرة التي تتطلبها المرحلة والحاجة، وهذه عادة مثل السلعة التي تستخدم لمرة واحدة فقط. غير أن هذه الجيوب، ليست ''آمنة'' أو ''مؤمنة'' للنظام إلى ما لا نهاية. ففيها من الثغرات ما يجعلها هي نفسها، مصدراً دائماً للاضطرابات. لسبب واحد فقط، وهو أنها غير طبيعية، إلى جانب أداتها الطائفية الرئيسة البغيضة.
العراق (بعد زوال صدام حسين) بات جيباً إقليمياً محورياً لنظام إيراني يعتقد أن ''الجيوب'' يمكن أن تحل مكان ''البدلة''، إلى جانب طبعاً، الجيوب الإيرانية في لبنان ''حزب الله''، والحوثيين في اليمن، والعصابات في أفغانستان وباكستان، وحماس ''سابقاً'' في قطاع غزة، وبعض الحمقى في مصر نفسها، فضلاً عن محاولاتها التي لا تتوقف لفتح جيب فاعل في البحرين، على أمل أن يكون مقدمة لجيوب مشابهة في كل دول الخليج العربية. ولكن يبقى الجيب السوري بوجود ''وكيل'' تاريخي حقيقي لإيران في هذا البلد الجريح، على رأس هذه الجيوب الإقليمية أهمية. وقد بدا عمق هذه الأهمية، بتصريحات مضطربة وخائفة لمسؤولين إيرانيين، اعتبروا أن الثورة على بشار الأسد هي ثورة على إيران نفسها.
وأهمية الجيب السوري، ليس فقط بوجود نظام طائفي مماثل للنظام الإيراني، بل لأنه الأطول زمناً، كما أنه نتاج حلف استراتيجي بين الأسد وطهران، منذ اليوم الأول لوصول آية الله الخميني إلى إيران عائداً من المنفى، قبل أكثر من ثلاثة عقود. ولو تابعنا العوامل المؤسسة لهذه ''الجيوب'' والأسس القائمة عليها، تبدو جميعها بوضوح بلا ''أزرار''. فكلها مهزوزة، بل سائرة نحو النهاية الحتمية لها، يضاف إلى ذلك أن الجسم الإيراني الحاضن لها، يعاني الوهن ليس فقط بسبب الموقف الدولي الرافض لاستراتيجية الشر الإيرانية، بل لأن المجتمع الإيراني نفسه الذي خَبِر ثورة كان من المفترض أن تقدم له شيئاً مرتبطاً بكيانه الوطني الخالص، وجد فيها ثورة من أجل أهداف أخرى، لا علاقة لها به. ثورة يرى أصحابها فقط أنها انتصرت. ثورة تبحث عن جيوب، لا عن ''بطانة'' وطنية أصلية، تنتج ''سترة'' لا تهترئ.