ذات يوم، من أيام عام 2010م، وقف الرئيس السابق- علي عبدالله صالح- أمام حشد كبير من منتسبي القوات المسلحة، وأخذ يلمز بالقدح ضابطا من ضباط الفرقة الأولى المدرعة، محددا ذلك الضابط بالاسم، ومتهما إياه بتهم توجب الاعتقال والمحاكمة العسكرية، وقال بالحرف"إنه أكبر مخرب ومزور في الجيش اليمني" فأُسقِط في أيدي هؤلاء المحتشدين، وتساءلوا في ذهول: أهذا كلام رئيس دولة؟! أهذا هو علي عبدالله صالح الذي حكمنا ثلاثة عقود؟! إن الرجل ليئن كما نئن، ويشكو كما نشكوا!!
بالتأكيد، لم يكن ذلك الضابط هو اللواء علي محسن صالح، ولم يكن وراء ذلك القول صحوة ضمير، ولا نية تغيير؛ إذ التغيير إنما يبدأ من الداخل، لكن ما كان يحمله ذلك القول، إنما يأتي على وجه ما يحمله المثل الشعبي" إدكم سعد، يفهم مسعود"، وقد كان اللواء علي محسن هو المعني بالإشارة، لا ذلك الضابط الذي يستظل بظله ويستند إلى قوته.
كان صالح يحس أن دابة الأرض تأكل منسأته، وكان يخشى معها أن يخر من حيث يحسب أنه في مأمن، وكان موعد الانتخابات الرئاسية يرمل في خطاه، ولم يعد له من مبرر للتمديد أو الترشح مرة أخرى إلا بخلط الأوراق وإدخال البلاد في معمعة ليس أنجع دواء لها إلا ما يمليه منطق القوة والغلبة؛ فيكون اجتماع القوة وإجماع الضرورة هما ما يدفعانه لمبرر إعلان البقاء ولو لفترة يسيرة، وقد تحقق له ذلك دون هذا السيناريو الذي قرئ من بعيد بعيون عالية الفراسة.
لم يهنأ صالح بما حققه، وتعالت الأصوات الرافضة له ولنظامه في مدن الجنوب وفي مناطق كثيرة من صعدة والجوف وحرف سفيان، وسقط خلالها الكثير من أبناء القوات المسلحة والأمن والكثير من صفوف المدنيين والمقاتلين المناوئين لنظامه، ووصلت معها حالة التذمر إلى صفوف الجيش والأمن الذي ظل يدفع به في مواجهات مبهمة وخاسرة في أغلب سنوات الحروب التي شهدتها مناطق صعدة، ثم تنكر لأولئك وعوملوا معاملة دونية لا تماثل في المستوى تلك المعاملة التي عومل بها مقاتلو الحوثيين.
مع تدافع كرة النار الثورية من قُطر عربي إلى آخر، وتبدد الآمال لدى الحكام في البقاء على كراسي الحكم أكثر مما عمروا فيها، كان الرئيس صالح -يتوجس كغيره- من أن تقع تلك الكرة الملتهبة على كرسيه فتسقطه؛ ولذلك فقد بادر بالدفاع الشرس عن نفسه ونظامه، وأخذ يطرح الوعود الوردية ويرقع -بعبث- خرقه الذي اتسع عليه، وهو يردد كلام من خدعوه: اليمن ليست تونس، فلما بلغت الثورة مصر قال: اليمن ليست مصر؛ لكن سرعان ما تأكد له عكس ذلك، حينما بدأت بواكير الثورة تطل بأزهار ربيعها في فبراير 2011م، قبل أن يبدأ موسم الربيع!!
كان الخوف من اللواء علي محسن يذرع الرئيس صالح طولا وعرضا، لما يملكه هذا الرجل من قاعدة كبيرة في صفوف المؤسسة العسكرية وفي صفوف القبلية والأحزاب التي تتكئ عليها، خاصة الأحزاب التي ولدت وترعرعت على عينيه، ومن بين تلك الأحزاب: حزب التجمع اليمني للإصلاح، وحزب المؤتمر الشعبي العام، والأحزاب الصغيرة الأخرى التي كانت -ومعها غيرها- تنظر إليه على أنه الرئيس الظل الذي يجب أن يهاب جانبه، وقد عمل صالح للتخفيف من ذلك الخوف على خلق كل ظرف من شأنه أن يوهن من قوة اللواء محسن، معتقدا أن انقلابا ما قد يأتي من طرف هذا الرجل مع انتهاء ولايته الرئاسية، أو انتهاء فترة التمديد التي يسعى لها، أو في اللحظة التي يدبر فيها أمر انتقال السلطة لنجله احمد علي صالح، تحت أي مبرر.
وعلى العكس من اعتقاد الرئيس صالح، كان اللواء علي محسن يؤمن بأن الثورة لا يشعل فتيلها إلا الجماهير، وأن الثورة دائما ما تبحث عن قوة عسكرية مؤازرة باعتبارها أداة القسر الثورية، أو على الأقل تلتزم الحياد؛ ولذلك فقد جد نفسه بين خيارين: إما أن يكون خاسرا مع الرئيس صالح أو أن يكون رابحا مع هذه الجماهير، وقد تأسى الرجل بقرينه في الثقل والتأثير -مع اختلاف المكان- بوزير الدفاع المصري المشير طنطاوي، وأنه لن يكون أحصف ولا أكثر تقديرا للموقف العام في المنطقة من هذا الرجل الذي كان من أشد المخلصين للرئيس حسني مبارك، ومع ذلك انقلب عليه هو وكل القيادات العسكرية في لحظة كانت أقوى مبرراتها تلبية نداء هذه الجماهير، وثمنها الكبير هو مضمون المثل الشائع: "حج وبيع مسابح" وقد احتذى اللواء محسن حذو المشير طنطاوي، إلا أنه كان -وفق اختلاف الظروف- الأوفر حظا في ظاهر هذا المشهد غير المنتهي بعد.
فما الذي دفع بعض القادة العسكريين الآخرين لسلوك ذلك المسلك؟
تربي الكليات العسكرية طلابها على الإعلاء من روح الزمالة؛ ولذلك نجد أن هذه القيمة -جمعت حقا وباطلا- بين زملاء الدفعة الواحدة أو زملاء الثلاث سنوات في سنوات ما بعد التخرج، أي في سنوات الخدمة في القوات المسلحة طيلة ثلاثة عقود، وفي لحظة الانشقاق عن الرئيس صالح، الذي لا يمثل لهم زميل دراسة في الكلية الحربية التي تخرجوا فيها؛ ذلك أنه لم يلتحق بكلية عسكرية، بل عين برتبة ملازم ثاني في القوات المسلحة أواخر الستينات كرتبة شرفية، غير أن تلك القيمة لم تكن وحدها هي الدافع لذلك التعاضد؛ فهناك المصالح المشتركة، وهناك تأثير اللحظة التاريخية، وهنالك الإرث العدائي بين من أقصاهم صالح من مناصبهم بسبب خلافات لا يسع المكان لسردها، وهذا كله لا يعني خلو موقفهم هذا من صحوة ضمير لم تكن ماثلة لدى من كابروا وآثروا البقاء مع الرئيس صالح.
والحقيقة، أن يوم الحادي والعشرين من مارس 2011م، كان فضاء واسعا لحدث ثوري عظيم، بكل ما تعنيه كلمة ثورة من معنى، لأنه اليوم الحقيقي الذي سقط فيه نظام صالح، وتحول فيه الثوار من مجموعة من المستضعفين إلى قوة ثورية ذات أذرع كثيرة، سياسية، وعسكرية، واجتماعية، وشعر صالح حينها أنه سقط بالفعل، وأنه لم يعد له سوى التهيئة المناسبة للخروج من المستنقع التي صنعه لنفسه طيلة ثلاثة عقود.
غير أنه مهما يكن من أمر أولئك الذين التحقوا بالثورة أو أولئك الذين خذلوها ونأوا عنها إلى صف الرئيس السابق، ثم وجدوا أنفسهم فجأة وسط قاطفي ثمارها ما بقوا على كراسي السلطة؛ فإن الجماهير التي دعت أولئك للمؤازرة لن تذكرهم بخير إن هم أرادوا بأعمالهم المضرة بالوجه المشرق للثورة أن تتخيل تلك الجماهير أن الثورة التي صنعوها إنما كانت ثورة على الرئيس السابق وأفراد أسرته فحسب، وأنها لم تطل أركان الفساد التي ظلت لثلاثة عقود تنخر في جسد هذه الأمة وتأخيرها عن مواكبة التطور الذي شهده العالم خلال تلك الفترة.
كما أن ما يؤسف له، أن تتحول صورة ومبنى الثورة في ذكرى قوتها التي اكتسبتها في الحادي والعشرين من مارس 2011م، إلى ثورة بين جناح وآخر من أجنحة النظام السابق، وأن تلك الجماهير قد ابتلعت خدعة ما، لم تكن وما تزال تجهلها، يأتي ذلك في ظل تزاحم المشهد بصور كثيرة من صور الثورة والثورة المضادة لها؛ وأظرف تلك الصور وأبدعها، استغلال المناسبات السياسية والدينية والاجتماعية وتوظيفها توظيفا ذكيا لخدمة من يتبنى إحياء تلك الذكرى، سواء عن طريق الحشد الجماهيري والإعلامي لأعياد الميلاد المصطنعة والأعياد الدينية والثورية وغيرها، أو من خلال التكريم بالدروع والشهادات التقديرية، وهذا لعمري تذكير متبادل بين هذه الأطراف فحواه: أن القوة موجودة وأن المحبين كُثر!!