آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

21 مارس.. السقوط والميلاد!!‏

ذات يوم، من أيام عام 2010م، وقف الرئيس السابق- علي عبدالله صالح- أمام حشد كبير من ‏منتسبي القوات ‏المسلحة، وأخذ يلمز بالقدح ضابطا من ضباط الفرقة الأولى المدرعة، محددا ذلك ‏الضابط بالاسم، ومتهما إياه بتهم ‏توجب الاعتقال والمحاكمة العسكرية، وقال بالحرف"إنه أكبر مخرب ‏ومزور في الجيش اليمني" فأُسقِط في أيدي ‏هؤلاء المحتشدين، وتساءلوا في ذهول: أهذا كلام رئيس ‏دولة؟! أهذا هو علي عبدالله صالح الذي حكمنا ثلاثة ‏عقود؟! إن الرجل ليئن كما نئن، ويشكو كما ‏نشكوا!!‏

بالتأكيد، لم يكن ذلك الضابط هو اللواء علي محسن صالح، ولم يكن وراء ذلك القول صحوة ‏ضمير، ولا نية ‏تغيير؛ إذ التغيير إنما يبدأ من الداخل، لكن ما كان يحمله ذلك القول، إنما يأتي على ‏وجه ما يحمله المثل الشعبي" إدكم ‏سعد، يفهم مسعود"، وقد كان اللواء علي محسن هو المعني ‏بالإشارة، لا ذلك الضابط الذي يستظل بظله ويستند إلى ‏قوته.‏

كان صالح يحس أن دابة الأرض تأكل منسأته، وكان يخشى معها أن يخر من حيث يحسب أنه ‏في مأمن، وكان ‏موعد الانتخابات الرئاسية يرمل في خطاه، ولم يعد له من مبرر للتمديد أو الترشح ‏مرة أخرى إلا بخلط الأوراق ‏وإدخال البلاد في معمعة ليس أنجع دواء لها إلا ما يمليه منطق القوة ‏والغلبة؛ فيكون اجتماع القوة وإجماع الضرورة ‏هما ما يدفعانه لمبرر إعلان البقاء ولو لفترة يسيرة، ‏وقد تحقق له ذلك دون هذا السيناريو الذي قرئ من بعيد بعيون ‏عالية الفراسة. ‏

لم يهنأ صالح بما حققه، وتعالت الأصوات الرافضة له ولنظامه في مدن الجنوب وفي مناطق ‏كثيرة من صعدة ‏والجوف وحرف سفيان، وسقط خلالها الكثير من أبناء القوات المسلحة والأمن ‏والكثير من صفوف المدنيين ‏والمقاتلين المناوئين لنظامه، ووصلت معها حالة التذمر إلى صفوف ‏الجيش والأمن الذي ظل يدفع به في مواجهات ‏مبهمة وخاسرة في أغلب سنوات الحروب التي شهدتها ‏مناطق صعدة، ثم تنكر لأولئك وعوملوا معاملة دونية لا ‏تماثل في المستوى تلك المعاملة التي عومل ‏بها مقاتلو الحوثيين.‏

مع تدافع كرة النار الثورية من قُطر عربي إلى آخر، وتبدد الآمال لدى الحكام في البقاء على ‏كراسي الحكم أكثر ‏مما عمروا فيها، كان الرئيس صالح -يتوجس كغيره- من أن تقع تلك الكرة ‏الملتهبة على كرسيه فتسقطه؛ ولذلك فقد ‏بادر بالدفاع الشرس عن نفسه ونظامه، وأخذ يطرح الوعود ‏الوردية ويرقع -بعبث- خرقه الذي اتسع عليه، وهو ‏يردد كلام من خدعوه: اليمن ليست تونس، فلما ‏بلغت الثورة مصر قال: اليمن ليست مصر؛ لكن سرعان ما تأكد له ‏عكس ذلك، حينما بدأت بواكير ‏الثورة تطل بأزهار ربيعها في فبراير 2011م، قبل أن يبدأ موسم الربيع!!‏

كان الخوف من اللواء علي محسن يذرع الرئيس صالح طولا وعرضا، لما يملكه هذا الرجل من ‏قاعدة كبيرة ‏في صفوف المؤسسة العسكرية وفي صفوف القبلية والأحزاب التي تتكئ عليها، خاصة ‏الأحزاب التي ولدت ‏وترعرعت على عينيه، ومن بين تلك الأحزاب: حزب التجمع اليمني للإصلاح، ‏وحزب المؤتمر الشعبي العام، ‏والأحزاب الصغيرة الأخرى التي كانت -ومعها غيرها- تنظر إليه على ‏أنه الرئيس الظل الذي يجب أن يهاب جانبه، ‏وقد عمل صالح للتخفيف من ذلك الخوف على خلق كل ‏ظرف من شأنه أن يوهن من قوة اللواء محسن، معتقدا أن ‏انقلابا ما قد يأتي من طرف هذا الرجل مع ‏انتهاء ولايته الرئاسية، أو انتهاء فترة التمديد التي يسعى لها، أو في ‏اللحظة التي يدبر فيها أمر انتقال ‏السلطة لنجله احمد علي صالح، تحت أي مبرر. ‏

وعلى العكس من اعتقاد الرئيس صالح، كان اللواء علي محسن يؤمن بأن الثورة لا يشعل فتيلها ‏إلا الجماهير، ‏وأن الثورة دائما ما تبحث عن قوة عسكرية مؤازرة باعتبارها أداة القسر الثورية، أو ‏على الأقل تلتزم الحياد؛ ولذلك ‏فقد جد نفسه بين خيارين: إما أن يكون خاسرا مع الرئيس صالح أو أن ‏يكون رابحا مع هذه الجماهير، وقد تأسى ‏الرجل بقرينه في الثقل والتأثير -مع اختلاف المكان- بوزير ‏الدفاع المصري المشير طنطاوي، وأنه لن يكون أحصف ‏ولا أكثر تقديرا للموقف العام في المنطقة من ‏هذا الرجل الذي كان من أشد المخلصين للرئيس حسني مبارك، ومع ‏ذلك انقلب عليه هو وكل القيادات ‏العسكرية في لحظة كانت أقوى مبرراتها تلبية نداء هذه الجماهير، وثمنها الكبير ‏هو مضمون المثل ‏الشائع: "حج وبيع مسابح" وقد احتذى اللواء محسن حذو المشير طنطاوي، إلا أنه كان -وفق ‏اختلاف ‏الظروف- الأوفر حظا في ظاهر هذا المشهد غير المنتهي بعد.‏

فما الذي دفع بعض القادة العسكريين الآخرين لسلوك ذلك المسلك؟
تربي الكليات العسكرية طلابها على الإعلاء من روح الزمالة؛ ولذلك نجد أن هذه القيمة -جمعت ‏حقا وباطلا- ‏بين زملاء الدفعة الواحدة أو زملاء الثلاث سنوات في سنوات ما بعد التخرج، أي في ‏سنوات الخدمة في القوات ‏المسلحة طيلة ثلاثة عقود، وفي لحظة الانشقاق عن الرئيس صالح، الذي لا ‏يمثل لهم زميل دراسة في الكلية ‏الحربية التي تخرجوا فيها؛ ذلك أنه لم يلتحق بكلية عسكرية، بل عين ‏برتبة ملازم ثاني في القوات المسلحة أواخر ‏الستينات كرتبة شرفية، غير أن تلك القيمة لم تكن وحدها ‏هي الدافع لذلك التعاضد؛ فهناك المصالح المشتركة، ‏وهناك تأثير اللحظة التاريخية، وهنالك الإرث ‏العدائي بين من أقصاهم صالح من مناصبهم بسبب خلافات لا يسع ‏المكان لسردها، وهذا كله لا يعني ‏خلو موقفهم هذا من صحوة ضمير لم تكن ماثلة لدى من كابروا وآثروا البقاء مع ‏الرئيس صالح. ‏

والحقيقة، أن يوم الحادي والعشرين من مارس 2011م، كان فضاء واسعا لحدث ثوري عظيم، ‏بكل ما تعنيه ‏كلمة ثورة من معنى، لأنه اليوم الحقيقي الذي سقط فيه نظام صالح، وتحول فيه الثوار ‏من مجموعة من المستضعفين ‏إلى قوة ثورية ذات أذرع كثيرة، سياسية، وعسكرية، واجتماعية، وشعر ‏صالح حينها أنه سقط بالفعل، وأنه لم يعد ‏له سوى التهيئة المناسبة للخروج من المستنقع التي صنعه ‏لنفسه طيلة ثلاثة عقود. ‏

غير أنه مهما يكن من أمر أولئك الذين التحقوا بالثورة أو أولئك الذين خذلوها ونأوا عنها إلى ‏صف الرئيس ‏السابق، ثم وجدوا أنفسهم فجأة وسط قاطفي ثمارها ما بقوا على كراسي السلطة؛ فإن ‏الجماهير التي دعت أولئك ‏للمؤازرة لن تذكرهم بخير إن هم أرادوا بأعمالهم المضرة بالوجه المشرق ‏للثورة أن تتخيل تلك الجماهير أن الثورة ‏التي صنعوها إنما كانت ثورة على الرئيس السابق وأفراد ‏أسرته فحسب، وأنها لم تطل أركان الفساد التي ظلت ‏لثلاثة عقود تنخر في جسد هذه الأمة وتأخيرها ‏عن مواكبة التطور الذي شهده العالم خلال تلك الفترة.‏

كما أن ما يؤسف له، أن تتحول صورة ومبنى الثورة في ذكرى قوتها التي اكتسبتها في الحادي ‏والعشرين من ‏مارس 2011م، إلى ثورة بين جناح وآخر من أجنحة النظام السابق، وأن تلك الجماهير ‏قد ابتلعت خدعة ما، لم تكن ‏وما تزال تجهلها، يأتي ذلك في ظل تزاحم المشهد بصور كثيرة من صور ‏الثورة والثورة المضادة لها؛ وأظرف تلك ‏الصور وأبدعها، استغلال المناسبات السياسية والدينية ‏والاجتماعية وتوظيفها توظيفا ذكيا لخدمة من يتبنى إحياء ‏تلك الذكرى، سواء عن طريق الحشد ‏الجماهيري والإعلامي لأعياد الميلاد المصطنعة والأعياد الدينية والثورية ‏وغيرها، أو من خلال ‏التكريم بالدروع والشهادات التقديرية، وهذا لعمري تذكير متبادل بين هذه الأطراف فحواه: أن ‏القوة ‏موجودة وأن المحبين كُثر!!‏

زر الذهاب إلى الأعلى