عاد إلى بيته ملطخاً بالدماء، غائر العينين، وعلى قدميه خطوط محمرة كأنما جُلد بشواظ من نار، ارتمى إلى جهاز الكمبيوتر وكتب بياناً عاجلاً إلى نقابة الصحفيين شرح فيه تعرضه للضرب والاعتقال التعسفي من قبل جنود الأمن بسبب تغطيته لأحداث شغب.
هذه قصة أحد الصحفيين في اليمن والتي تتكرر بشكل يومي، ما يدعو إلى إعلان اليمن "منقطة منكوبة في الحريات الصحفية والاعتداء على الصحفيين".
قبل أيام تعرض الزميل الصحفي محمود ياسين لاعتداء بشع من قبل ملثمين كان أحدهم يرتدي "جاكت ميري" والآخر مقطب "كاكي"، كانوا يرقبون خروجه من بيته، وحاولوا القضاء عليه لولا ألطاف الله، ثم مقاومته لهم ونجدته من قبل بعض المواطنين كانوا بالقرب منه أثناء الاعتداء عليه..
وقبلها تعرض الزميل الصحفي جبر صبر للضرب المبرح والسب والشتم من قبل قوات الأمن المركزي، وبلغ بهم التعسف إلى مصادرة ممتلكاته من كاميرا وجوال ومبلغ مالي، ولم يتوقف المشهد الجنوني إلى هذا الحد ليفرضوا الحجر على حريته ويغتالوا براءة طفله المحظوظ بمرافقة أبيه الذي لم يتعدّ الخامسة، ليُرمى بهما في معتقل الصحافة (قسم الشرطة) بالعاصمة صنعاء. وفي هذا المكان الذي لم يعهده الطفل أصيب بحالة هلع وذعر شديدين أثناء استقبال جلادين آخرين لوالده بالضرب والاعتداء أمام ناظريه ولم يأتِ التوجيه بإطلاق سراحه إلا بعد مرور أكثر من ثلاث ساعات.
في اليمن قبل أن تفكر في تغطية أي حدث حضر فيه رجال الأمن أو رجال القبائل عليك أن تحسب كل خطوة بدقة قبل أن تضغط عدسة الكاميرا أو تمسك القلم أو تسأل مَن حولك...، لأن المسألة معركة مصير مع رجال الأمن! وفلاش الكاميرا يتبعه على التو الضرب والتنكيل..! وأنت قد تجد نفسك في لحظةٍ ما بين أعقاب البنادق إن لم يلقنك أحدهم درس الموت بطلقة طائشة بدون ضمير.
يوماً ما فكرتُ أن أرصد جميع ضحايا الصحافة في اليمن، عندما بدأت أسأل أحدهم، هل تعرضت للاعتقال أو العنف وأنت تمارس عملك الصحفي؟
أجاب: هل تقصد كم عدد الاعتداءات التي تعرضتُ لها؟ وأضاف: في الحقيقة بسبب زيادة الاعتداءات المتكررة لا أستطيع سردها كاملة الآن!.
آخر لم يجب، فقط كشف عن ساقيه، بدت مسحوقة الجلد وطافحة بالحُمرة.. كما لو أنها أُخرجت من بين ألسنة نار ملتهبة، كانت الإجابة واضحة أنه تعرض لاعتداء همجي منذ ساعات.
عندها قررت أن أتوقف عن مهمة التحقيق وتقارير الأحداث الساخنة، وأن أُعلن الحداد الدائم على أرواح وجراح الصحفيين.
لقطة الفلاش بطلقة الكلاشنكوف
في إحدى المرات كان أحد الصحفيين يوجه كاميرته إلى جندي يقف على سقف أحد المباني الرسمية.. لا أدري أكان الجندي يظن أن الصحفي يصوب سلاحه ضده، أم كان يعلم أنه لا يملك إلا آلة تصوير عندها كان الرد سريعاً حيث أدار الجندي بندقيته وأطلق رصاصتين دمويتين لتخترق الجسد الصحفي..
لقد سقط الصحفي مع قناصته الوهمية "الكاميرا" على إثر طلقة غبية من جندي متعجرف يواجه لقطة الفلاش بطلقة الكلاشنكوف!.
الحمد لله لم يمت صاحبنا الصحفي، لأن الجندي كان ميت الضمير! نعم لم يزل متصلباً في مكانه بضمير ميِّت، ويوشك أن يكون أسقط صحفياً آخر بنفس البندقية التي توزع رصاص الموت.
في الحقيقة ليس الأمن وحده هو من يقف أمام الصحفيين بجنوده المأمورين أو الموتورين الذين لا يعرفون واجبهم الأمني إلا بمطاردة وسائل الإعلام ورجال الصحافة، ولا يفهمون غير لغة الكسر، والضرب والضرب الآخر.
الجميع هنا ينادون بحرية الصحافة والصحفيين، لكن لا أحد يُلقي بالاً عندما يقف الصحفي متأرجحاً بين كماشة مرافق شيخ قبلي عنيد أو عسكري شديد، أكثر ما يمكن فعله هو بيان الإدانة من نقابة الصحفيين، وتسجيل تضامن الزملاء على صفحاتهم في الفيس بوك.
وعلى الرغم من زخم المؤسسات والمنظمات التي تدافع عن حقوق الإنسان والحريات الصحافية، إلى أن ألم الصحفيين يزداد يوماً وراء آخر.
هذه المؤسسات ليس بمقدورها فعل شيء سوى إصدار بيانات انتقائية تدعو للرثاء، ورفع شعار الحرية، وإحياء ذكرى الرموز الصحفي..
أن تحتل اليمن المرتبة 169 على مستوى العالم في حرية الصحافة وفقاً لتقرير منظمة مراسلون بلا حدود للعام 2013م هو أمر مخيف وفاجع، ربما تحسن الوضع بعد العام 2011م الذي سقط فيه خمسة صحفيين قتلى منهم: جمال الشرعبي وحسن الوظاف وغيرهم الذين أصبحوا رموزاً ثورية آمنوا بالقضية التي حملوها وسقطوا على عتباتها.
كان جمال الشرعبي يسابق بكاميرته الرصاص التي تحصد أرواح شهداء جمعة الكرامة، وقبل أن يستدير لالتقاط مشهد سقوط أحد الشهداء كان الموعد أن يسقط جمال نفسه محتضناً لعدسته التي لفت شريط الصور لجرائم قتلة سحقوا في يوم واحد أكثر من 52 شهيداً ومئات الجرحى بدماء باردة.
وفي مواطن أخرى شربت دماء عشرات الجرحى من الصحفيين الذين تلقوا بأبدانهم العارية رصاص الأمن، ووقعوا رهن الاعتقال لينتهي بهم المطاف إلى السجن ويستقبلهم زبانية الأمن بالتعذيب.. لأنهم ضُبطوا متلبسين بتغطية أحداث ثورة الشباب في ساحات التغيير.
في تقرير مراسلون بلا حدود وصف اليمن بأنه "لا يزال من أكثر الدول خطورة على الصحفيين من خلال الاعتداءات والصعوبات والجوانب القانونية التي يلاقيها الصحافي أثناء ممارسة عمله".
أما مؤسسة حرية للحقوق والحريات التي يرأسها الصحفي خالد الحمادي الحاصل على الجائزة الدولية لحرية الصحافة لعام 2011م في كندا، فقد أكدت في تقرير حديث لها أن "اتساع دائرة الاعتداءات على الإعلاميين من نطاق أجهزة الدولة إلى دوائر مؤسسات اجتماعية وغيرها خلال العام 2012 وهو ما يعطي مؤشر بأن مستقبل الحريات الإعلامية في خطر".
وقالت المؤسسة أنها رصدت خلال عام 2012م الانتهاكات ضد الحريات الإعلامية، وقد بلغ عدد الحالات إلى (260) حالة، وعدد الضحايا لتلك الحوادث (432) تعرض لها إعلاميون وصحف ومؤسسات صحافية وإعلامية.
وحسب مؤسسة حرية "تشكل الاعتداءات الجسمانية ما نسبته 31% من حالات الانتهاكات الاخرى, بينما كانت الأكثر شيوعاً حالات الترهيب والتهديد حيث بلغت ما نسبته 39.1% (حالة 147).
وتنوعت الاعتداءات بين اعتداء جسدي واعتقال واحتجاز وتهديد وترهيب وفصل تعسفي، واختطاف وشروع في قتل ومصادرة صحف، ونهب، ومحاكمة إعلاميين ومؤسسات إعلامية.
شخصياً أصبحت أرثي لجنة الحريات بنقابة الصحفيين اليمنيين، فلا يمكن أن يمر عليها يوم دون أن تتلقى بلاغاً بتعرض أحد الصحفيين تهديداً أو اعتقال تعسفي، أو تعرضه للعنف.
قد يكون الصحفي اليمني من أشجع الصحفيين لما تنطوي عليه مهامه وأعماله من مخاطر على مدار الساعة خصوصاً في بلد لا يزال يجهل أغلب سكانه طبيعة التعامل مع الصحفي، بالإضافة إلى آلة أجهزة الحكومة التي تعاقب كل من يحاول أن يكشف شيئاً من فضائحها، ولا يزال هناك قراصنة للكلمة وظيفتهم الرئيسة كبت الفكر والرأي، يتلصصون على أوراق الصحفيين ويحاولون طمس بعض الحقيقة حيث تحولوا إلى سكاكين حادة لطمس الكلمة الحرة وطعنها منذ ولادتها.
في الأخير: عندما ندعو إلى نعي الصحافة في اليمن لا يعني التخلي عن مهنة الصحفي اليمني، لكنه دعوة إلى واجب الحماية الأمنية أولاً، ورد العصى الأمنية التي تطارد المهنة الصحفية؛ لتوفير المساحات المفتوحة من العمل والمعلومات للصحفيين.
والذي نخشاه أن تتحول وفود الصحفيين إلى قوافل مهاجرة نحو بلاد الشرق والغرب بحثاً عن الأمان وطلباً للنجاة من الخوف المركب.
في كل أنحاء العالم السلطة الرابعة هي الصحافة، وفي اليمن لا سلطة لها، لقد حل في مرتبتها مشايخ القبائل والجنود والمتنفذين من حمران العيون.
أيها العالم توقفوا عن الكلام المباح، وحطموا أستار السكوت.. هل يريحكم أن نصلي ركعتين على شرف موت الصحافة في اليمن.