آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

الفيدرالية ولَيَّاتْ حُمرَانْ العيون

التعامل مع واقع يضج بالمتناقضات ويتسم بضعف الدولة وتغول مراكز القوى مثلما هو حال اليمن الآن بمنطق الشعارات والحلول المٌعَلبة الجاهزة لن يؤدي سوى لتفاقم انهيار الدولة والخراب الشامل.

من هنا لا يجدي الهروب نحو شعارات الفيدرالية ، والدولة الاتحادية إذا لم تنجِز السلطة الانتقالية أولاً الخطوات التمهيدية لاستعادة أصول الدولة وأدواتها ومقدراتها ، وكف أيدي المصالح المرتبطة بشبكة النظام السابق التي لازالت تتغلغل في مفاصل الدولة والمجتمع وتلقي بظلالها الكئيبة كل يوم أمام عجلة التغيير بأشكال وتعبيرات تخريبية لا تكِل ولا تمِل.

تصريحات الرئيس عبد ربه منصور هادي التي تناقلتها وسائل الإعلام اليومين الماضيين ، التي أكد فيها صدور قرارات هامة في الأيام القادمة تحتاج إلى مساندة شعبية وحزبية من كافة الأطياف ومن مختلف التوجهات.

فقد بدى واضحاً للرئيس وللجميع أن تأجيل هذه القرارات جعل الباب مفتوحاً للشبكة المضادة لنقل السلطة والحريصة على استمرارية مصالحها المهولة غير المشروعة لكي تنشط وتخرب وتعرقل وتضع العصي في دواليب الدولة من خلال المواقع التي لازالت تتشبث بالبقاء داخلها، سواء في مؤسستي الجيش والأمن أو الجهاز الإداري والخدمي لمؤسسات الدولة المختلفة.

هذه المعطيات التي يعيشها اليمنيون كل يوم تؤكد صوابية توجهات الرئيس لاستكمال مابدأه العام الماضي خلال الأيام القادمة ، وسوف تكون هذه القرارات داعماً كبيراً لمؤتمر الحوار الوطني وتعظيم فرص نجاحه ، كما أنها تلبي مطالب مؤتمر الحوار الوطني الشامل ، أعلى هيئة في اليمن الآن ، التي سبق ورفعت مطالبها للرئيس باستكمال هيكلة الجيش والأمن ، واستعادة هيبة الدولة ، وتطبيق خارطة الطريق العشرينية للتمهيد لحل القضية الجنوبية جذرياً.

هذا هو طريق خروج اليمن من نفق الشبكة المهيمنة وليس استباق الأحداث برفع شعارات الفيدرالية والدولة الاتحادية في واقع لا وجود فيه أصلاً للدولة التي تتناوشها مراكز النظام السابق وشبكاته الأخطبوطية.

مابين العنوان المستورد والواقع المادي الملموس الذي يطبق فيه مسافة فاصلة ، تزداد شساعةً كلما كان المستورِد أسيراً للشعارات ، وغافلاً عن واقع بلده ومشكلاته الحقيقية ، أو قاصداً إعادة إنتاج سيطرته بغلاف حديث ، والأخير الأنكى والأكثر ضرراً.
في السبعينيات دفع التطرف الداخلي والحصار الإقليمي تجربة اليمن الجنوبي مع الاشتراكية إلى انتهاج سياسات انعزالية ومعيقة لتطور المجتمع.

باسم الاشتراكية المفترى عليها منع الفلاحون من استيراد أدوات عملهم ، وصودرت المبادرة الفردية على مستوى النشاط التجاري ، وتحول البلد الذي لم تكتمل بنيته التحتية بعد إلى حلقة نقاش حزبي وأديرت الصراعات بالعنف ، وفي نهاية الثمانينيات كان الشكل المزيف في الشمال مغرياً وجذاباً وتحكمت في مزاج المواطنين في الجنوب منتجات البسكويت والعصائر ووفرة السلع المعروضة في الأسواق كالأقمشة والستائر والسيارات.. وغيرها.

وفي العشرين عاماً الماضية رفع نظام صالح كل الشعارات اللماعة بأدوات الحكم العصرية كالديمقراطية وحقوق الإنسان ، وأفرغت من مضمونها لتغدو أدوات بيد القوى التقليدية القبلية المهيمنة من تحت السطح.

وبعد كل هذه السنوات العجاف وجدنا انفسنا نعود إلى نقطة الصفر من أجل تأسيس دولة القانون واستقلالية القضاء والمساواة في قسم الشرطة وأمام الخدمة المدنية وتغليب معيار الكفاءة والخبرة على معايير الولاء والعصبوية القبلية والمناطقية.
القفز على الواقع يخلق مشكلة أخرى ولا يحل مشكلة. والفيدرالية والدولة الاتحادية باعتبارهما حلاً واستجابة لمشكلات معينة يمكن أن يكونا مشكلة أكبر حينما يتم استدعاؤهما لمواجهة واقع يحتاج الآن إلى خارطة طريق تمهيدية قبل القفز للبحث عن أي حلول أخرى تتعلق بشكل الدولة والنظام السياسي.

« ما أدراك يابوطير بِلَيَاتْ حُمرانْ العيون » مثل يمني شهير يحكي قصة أحد القبائل المتدحبشين الذي ذهب إلى قبة الولي للتبرك به من أجل طلب في نفسه ، واتبع كل الطقوس بما فيها ذبح كبش عند قبر الولي ، غير أنه بعد أن أكمل الدعاء والتبرك وطرح الكبش المذبوح عند قبر الولي ، التوى من الجهة الأخرى وأخذ الذبيحة وذهب ليأكلها ، وبينما هو منهمك في « قِراطَ » العظام التفت بسخرية نحو قبر الولي وعلق ساخراً : ماأدراك يا بوطير بِلَيَّاتْ حٌمرانْ العيون !!

وقد التهم حٌمرانْ العيون في تاريخنا الحديث ثورتي سبتمبر وأكتوبر والاشتراكية والديمقراطية والوحدة وحقوق الإنسان ، فهل ندعهم يلتهمون الثورة الشعبية السلمية والحراك الجنوبي ومؤتمر الحوار والفيدرالية والدولة المنتظرة !!

زر الذهاب إلى الأعلى