[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

الحوار يا يمن الحكمة

قبل أن ألج إلى هذا الموضوع الشائك دعوني أتحدث عن بلد جميل آمن نظيف، مستوى دخل الفرد فيه من أعلى الدول، قامت بقرب حدوده حربين عالميتين مدمرتين وهو في منأى عنهما، التزم الحياد وكأنه يقول للمتحاربين: هذا عبث وحماقة، إنه سويسرا بلد الجمال والرخاء والحرية والأمن، لكن ذلك لم يأت تنزلاً ولا تكرماً من الآخرين، لكنه كان نتيجة دروس قاسية من حروب أهلية مدمرة امتدت لأكثر من مئة وخمسين عاما قامت بين المذاهب الدينية والخلافات العرقية، أذكت نارها الدول المجاورة الطامعة، وفي النهاية جاء القائد "دورفور" وتولى قيادة الجيش، قائد يتمتع بالحكمة وبعد النظر قال لجنوده كلمته المشهورة: "ضعوا غضبكم خلفكم ولا تفكروا إلا في الواجب الذي تفرضه عليكم بلدكم، وبمجرد انتصارنا انسوا كل شعور بالانتقام وتصرفوا كجنود كرماء لأنكم بذلك تثبتون شجاعتكم الحقيقية، احموا العزل ولا تسمحوا بإهانتهم أو إساءة معاملتهم، تصرفوا بأسلوب يكسبكم الاحترام" (المصدر البديل الثالث، ستيفن كوفي) بعدها قامت دولة مثالية بثلاث لغات ومذاهب مختلفة، لكنها دولة حفظت للمناطق المتنازعة استقلالها الذاتي وكفل دستورها للإنسان كرامته وحريته، وسماع صوته وتساوي الفرص للجميع ومحاربة الفساد، لقد كانت سويسرا في القرن التاسع عشر من أفقر البلدان وأهم صادراتها الشباب الجائع الباحث عن عمل. واليوم تستقبل الباحثين عن العمل وتعيش في رخاء وأمن ونظام وعدالة لا مثيل لها.

من وجهة نظري أن للإصلاح طريقين لتصبح اليمن مستقرة وآمنة، الطريق الأول شائك وطويل وهو أن يختلف قادتها وينفض الحوار دون حلول تلبي الحد الأدنى من المطالب، مع إعطاء الدول التي لها أطماع في المنطقة فرصة التدخل وتأسيس أحزاب تدين بالولاء لتلك الدول، مع ما قد يجره ذلك من حروب أهلية وويلات كثيرة، وبعد سنوات طويلة من النزاع يقتنع القادة أن الحل ينبع من الداخل ومن التوافق لا التنافر ثم ويأتي الإنقاذ على يد قائد بعيد النظر ويتمتع بالشجاعة، والطريق الثاني هو أن يأخذ قادتها العبرة من التاريخ ويختصرون الطريق ويصبح حوارهم الوطني حوار حكمة وتغليب مصالح الوطن، مع التركيز على الأمن وإنعاش الاقتصاد ومحاربة الفساد ودرء الفتنة، وإبعاد وكشف كل من يحاول جر اليمن إلى المجهول.

ومن الدول التي تحاول الدخول إلى اليمن إيران التي تذكرني بما كان عليه الاتحاد السوفييتي، الذي زعم أنه السند والمنقذ لحركات التحرر في العالم ضد الإمبريالية، متجاهلاً تحرير الإنسان في داخل بلده، كان لديه إمبراطورية تنافس الغرب في امتلاك الأسلحة بكافة أنواعها، واستخدم أيديولوجيا أعطته عصاً غليظة يضرب بها كل من يحاول أن يرفع صوته مطالباً بالحرية، واليوم تقوم إيران بنفس الدور في الداخل والخارج إلا أنها استبدلت أيديولوجيا قمعية تحت شعارات الاشتراكية المزيفة بأيديولوجيا دينية اكتسبت قدسية يصعب نقدها، إيران تريد أن تصنع باليمن ما صنعته وطبخته على نار هادئة في لبنان، وما تعمله في العراق وما تحاول أن تقوم به في أكثر من دولة، تريد أن يكون لها حزب يتلقى الأوامر والإلهام من قم، لقد عاش اليمن مئات السنين دون تأثير للمذاهب المختلفة على استقراره ووحدته الوطنية لكن إيران الثورة غير إيران التاريخ المشرق منذ القدم.

كنت في اليمن قبل ثلاثين عاماً وزرته قبل ثلاث سنوات فهالني ما وصلت إليه الأوضاع في اليمن الشقيق، كان أجمل وأكثر رخاءً مما هو فيه الآن، كان الدولار الأمريكي يساوي خمسة ريالات يمنية، والآن صارت قيمته حوالي مئتين وأربعين ريالاً يمنياً، وزاد الفقر وامتلأت مواقع إشارات المرور المزدحمة بالمتسولين الذين لم يكن لهم وجود، كل ذلك تم بسبب الفساد المستشري في كل مفاصل الدولة، ومحاولاتها عقد التحالفات مع دول لم تقدم لليمن سوى شعارات لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا يزال أصحاب المصالح الخاصة والفساد يعرقلون كل توجه لاستقرار اليمن ووحدته الوطنية.

لقد أثبت الشعب اليمني أنه شعب حضاري وحريص على بلده، لذا لم تنزلق البلاد إلى حرب أهلية مدمرة كما حدث في دول كثيرة. لكن الخوف لا يزال قائماً للأسباب السابقة الذكر ولإصرار بعض رموز الحراك الجنوبي على الانفصال التام ورفض الحوار، وإصرار قادة آخرين من الشمال على فرض الوحدة الكاملة بالقوة.

الحوار يعني البحث عن حلول تلبي مطالب كل المشاركين دون الإضرار بجانب على حساب الآخر، يجب طرح أكثر من صيغة للوحدة، وفي العالم نماذج كثيرة من الفدرالية والكونفدرالية الناجحة.

يا حكماء اليمن كيف سيكون مصير نلسون مانديلا ومعه دولة جنوب أفريقيا لو حاول أن ينتقم ممن سجنه سبعا وعشرين سنة، ماذا لو تحالف مع دولة أجنبية على حساب أهله وبلده، التاريخ لا يخلد سوى القادة المخلصين المتسامحين الشجعان الذين يتمتعون بالحكمة وبعد النظر. إن الكراهية وحب الانتقام تحجب الرؤية وتجعلها ضيقة تبحث عن تحالفات ومصالح شخصية بدلاً من الحلول الدائمة التي يكون الكل فيها رابح، إن من يستبدل مساعي الدول الصديقة التي تبحث عن استقرار اليمن ورخائه بدولة تصدر له الأسلحة والتحزب والمذهبية مثل فلاح يستبدل شجرة البن الجميلة بشجرة القات اللعينة.

أحببت اليمن والمحب لا يدير ظهره لمحبه، ولا يجعل حبه مشروطاً، أحببت تلك البقعة من العالم العربي وعملت فيها قرابة العام مدرساً طياراً، ولي فيها صداقات كثيرة، وزرتها قريباً عدة مرات، وفي كل مرة أزداد خوفا على اليمن وأهله.

زر الذهاب إلى الأعلى