إن قصة الجيش في اليمن تستحق أن تُروى، ولو بعناوين فصولها! فقط كي نتنبّه ونتعلم من تجاربنا التي استنزفت الطاقات والتهمت نصف قرن على الأقل من عمر هذه البلاد.
لذلك أريد لقرار توحيد الجيش أن يكون البداية الحقيقية لبناء جيش حديث. والحداثة هنا، لا تعني فقط حداثة السلاح ولكنها تعني البناء الوطني المؤسسي للجيش كمؤسسة لا تتقاسمها الأحزاب، أو الزعامات القبلية والمناطقية، ولا تكون مسرحاً للخلافات، والانقسامات السياسية، وحتى تكون مؤسسة للوطن كله، ولليمنيين جميعاً..
وإذا كان هناك ما يبرر تحزّب ضباط الجيش سرّاً أو علانيةً في ستينيات القرن العشرين، شأننا شأن معظم دول العالم الثالث المستقلة والثائرة والتي كان الجيش فيها طليعة التغيير، فإن ما حدث عندنا بعد ذلك كان كارثياً ومريعا. ولن أسهب في تفاصيل الأسماء والعائلات التي تقاسمت قوى الجيش وقواته منذ السبعينيات وحتى لحظة صدور القرار الأسبوع الماضي! بمعنى أن انقسام الجيش حزبياً وقبليا، كان موجودا حتى قبل فترة الرئيس السابق علي عبدالله صالح، ولكن ذلك الانقسام لم يكن عميقا وقويا بما يكفي كي يصمد أمام زلزال ابراهيم الحمدي الرئيس الأسبق الذي تخلّص من مراكز قوى معينة ونسي القاتل الذي يجلس إلى جانبه ويقاسمه الهواء الذي يتنفسه في نفس المكان!
لكن ما حدث بعد ذلك وخلال الثلاثين سنة التالية للحمدي لم يسبق له مثيل،.. فالتركيز على الأقربين في تعيينات الجيش تجاوز كل حد مقبول أو معقول، وأظن أن السبب الرئيسي في ذلك تمثّل في واقعتين متتاليتين أصبحتا حَجَرَ الزاوية في تفكير الرئيس السابق،.. أولاهما كانت محاولة الانقلاب الناصري بعناصر من الجيش، وثانيتهما تمثلت في انهيار قواته أمام قوات "جنوبية" ومعها مقاتلون من الجبهة الوطنية، وقد زحفت هذه القوات حتى تخوم مدينة رداع في بضعة أيام،.. وقبل أن يلتقي بعبد الفتاح اسماعيل في الكويت ويتفق معه على الانسحاب بمباركة ورعاية من أمير الكويت الأسبق.
بعد هاتين الواقعتين تغيّر المسرح كليا! بما في ذلك أبطاله أي القادة الجدد الذين امتلأ بهم المسرح عن آخره! عدا بعض الكومبارس هنا أو هناك كتكملة للديكور! واستمر ذلك حتى قيام الوحدة وانفجار حرب 94، وفي ظني أن عدم توحيد الجيش كان أحد أسبابها الرئيسية. وربما وجب أن نشير هنا إلى أن الجيش بعد تلك الحرب الرعناء أصبح موحّدا ولو على حساب الوحدة الوطنية! وواحدا ولو لحساب رجلٍ أوحد! وفي كل الأحوال، يبدو أننا ما نزال نعيش زمن العصبية القبلية التي تحدّث عنها عبدالرحمن بن خلدون كحامية للدول ومؤسسةٍ لها! وكأننا ما نزال نعيش في القرن السابع الهجري!
ولذلك طغت تلك العصبية على الوطنية، والثقة على الكفاءة.. حتى رأينا قادةً أوصلوا البلاد إلى ما هي عليه! وبالنسبة للشطر الجنوبي من الوطن قبل الوحدة، فإن الأحلام الكبيرة لم تستطع أن توحّد الجيش تماما كمؤسسة حديثة ومستقلة وبعيداً عن الخلافات السياسية وحتى المناطقية، بين أركان النظام ورؤوسه، وشكلت أحداث يناير 1986 الدليل المحزن على الفشل في بناء جيش مستقل عن الصراعات السياسية التي يمكن أن تحدث في أيّة لحظة بعيدا عن دخول الجيش بفصائله في أتون نارها وكارثية نتائجها.
خلال عشر سنوات بين 1994 و2004 توحّد الجيش على الطريقة اليمنية إياها، بعد أن جرى تهميش وتفتيت ما تبقى من القوات "الجنوبية" وليكون ذلك بذرة للحراك الذي بدأ اشتعاله في 2007، في نفس الوقت الذي كانت فيه المعارك تتصاعد في صعدة في حربٍ بدت كلعبةٍ قاتلة وخطرة تواجه عقولاً عالقة في حروب وعُقَد القرن الهجري الأول! وبدأ شرخٌ جديد في الظهور في القوات المسلحة بسبب حرب بدأت كلعبةٍ نارية لإثارة الانتباه، وانتهت حريقا تصاعد دخانه على المستويين الداخلي والإقليمي.. وأثناء ذلك بدأ تشقق الجدار المهترئ أصلا، وتعمّق الشرخ لتكون خاتمة المطاف في الانشقاق الواضح الغامض، إثر جمعة الكرامة مارس 2011.
الآن وبعد أن مررنا بعناوين سريعة لبعض فصول القصة، لا بدّ من التنبيه، لأهمية أن نتعلم من الدروس التي كانت كلفتها باهظة ومحزنة. وخلاصتها أن الجيش يجب أن يكون مستقلاً وبعيدا عن الحزبية تماما، وغير تابعٍ لقبيلةٍ معينة، أو أسرة متنفذة، أو تيار سياسي، أو جهبذ عسكري يمتلك كل شيء، لأن الجيش يجب أن يظل فوق الأحزاب والتيارات المختلفة والمتصارعة.
ولعلّ ذلك أن يكون الأساس في بناء صرح الدولة المدنية الحديثة التي نريدها بوابةً نعبر منها صوب المجتمع المدني الحديث،.. فلا صرح للدولة المنشودة بلا أساسٍ هو الجيش، ولا ولوج إلى المجتمع المدني الحديث المأمول دون العبور من البوابة الأساسية،.. مدنية الدولة أولاً!