الرؤية المحجوبة عمدا (1)
تعيش اليمن موجة عارمة من الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية التي ما زالت تعم البلاد طولا وعرضا بحيث غدت تجليا بارزا للأزمة اليمنية ، أو بالأصح تعبيرا مكثفا عن المكامن الهيكلية لهذه الأزمة من حيث اتساعها وعمقها وحدتها. يعجز البعض اليوم عن تفسير معنى هذه الأزمة، أو يكتفون بتجاهلها أو تفسيرها في مظاهر جزئية كالبطالة والفقر المنتشرين على نطاق واسع بين سكان اليمن.
فقد رهن هؤلاء أفقهم وقدراتهم فيما مضى على الرؤية والتصرف واتخاذ القرار في مقاييس مظللة إلى حد كبير أتبعها النظام السياسي السابق أو تعمد اتباعها ، وهو الذي أظل طريقه في معالجة المشكلات ومواجهة التحديات التي تحيط بالبلاد بالركون إلى مقاييس ناقصة لا تنطق ولا تفصح إلا عن جوانب جزئية من واقعنا الأليم.
وهنا نحب أن ننوه بأن ما نقيسه ونقيس به أمر بالغ الأهمية بما له من تأثير بالغ على تصوراتنا وقرارتنا نحن نرى العالم الذي من حولنا من خلال عدسات لا تتلون فقط عبر أيديولوجياتنا وأفكارنا ولكن أيضا من خلال المعطيات المؤشرات الإحصائية الدقيقة والشاملة التي نستخدمها لقياس ماذا يجري داخل مجتمعنا هذا.
لقد تبنت الحكومات اليمنية السابقة المتعاقبة - على ضوء ما أنتجته من مؤشرات مظللة - سياسات وإجراءات مجتزئة وزائفة هدفها المعلن التخفيف من الفقر ومكافحة البطالة عبر ما أطلق عليه استراتيجيات التخفيف من الفقر واستراتيجيات التشغيل. وعلى الرغم أن هذه الإستراتيجيات قد مضى عليها أكثر من عقدين من الزمن فإنها ليس فقط لم تسفر عن نتائج على أرض الواقع ، بل عمقت الفقر والبطالة ووسعت نطاقهما ورفعت سقوف الاستبعاد الاجتماعي ووسعت من مساحته وهو الاستبعاد الذي يغدو اليوم المسئول الأول عن هذه الأزمة العميقة التي تضرب بتداعياتها قلب المجتمع وعقله وتدوي اليوم بأعلى صوت مسموع.
لقد بلغ الاستبعاد الاجتماعي اليوم في اليمن نطاقا وحدا لم يعد ممكنا معه تجاوزها بحلول مؤقتة أو مجتزأة. وليس بمحض الصدفة أن تكتشف الحكومة اليمنية في نهاية 2010 أن جميع أهداف الألفية الانمائية الثمانية التي تبنتها بتوجيه ومساندة ودعم من المجتمع الدولي في مطلع التسعينيات لم تتحرك قيد أنملة إلى الأمام بل أصابها التردي والفشل، ولكنه اكتشاف بعد فوات الأوان.
الاستبعاد - قراءة في المفهوم (2-4)
لكي تعيش خارج المجتمع ينبغي أن تكون حيوانا أو آلها (أرسطو)
أشرنا فيم سبق، إلى مساعي التشويش والتظليل المتعمد لمنظومة الحكم السابق وخلط المفاهيم والمقاييس لما هو جزئي ومشتق كالبطالة والفقر مع ما هو كلي وسببي كالاستبعاد الاجتماعي أي خلط السبب بالنتيجة لحرف الأنظار بعيدا عن المعالجات الحقيقة التي تتوجه إلى جذور المشكلة الكامنة في المنظومة ذاتها.
فقد ظلت المنظومة السياسية الحاكمة تحصر الاستبعاد الاجتماعي العميق الجذور في اليمن ذو الأبعاد الأفقية والرأسية على أنه لا يعدو لما رأت فيه الحكومات المتعاقبة بالفقر. وعلى الرغم من وجود علاقة ارتباط عضوي وديالكتيكي بين الترتيب الطبقي الاقتصادي وظاهرة الاستبعاد الاجتماعي ، فإن الحقيقة أن الاستبعاد الاجتماعي ظاهرة تتعدى مجرد أن يكون الفرد فقيرا في المجتمع. وعلى الرغم من أن مفهوم الاستبعاد الاجتماعي مفهوم جدلي وشائك وواسع المعنى ، فأننا لا ننوي في هذا المقال إلا أن نستخدمه في السياق الذي ينبغي على الحكومة الانتقالية وأي حكومة قادمة أن تتعامل معه لمقاربة ومعالجة الأزمة اليمنية الراهنة بطريقة ممنهجة وسليمة وفعالة ليتحقق حلم أولئك الذين ثاروا ودفع بعضهم حياتهم ثمنا للخلاص منه، ولتفادي انهيار البناء الاجتماعي المتصدع التي أفرزته عقود من الاستبعاد الاجتماعي.
الاستبعاد الاجتماعي وهو نقيض المساواة والاندماج الاجتماعي ويقصد به حرمان الأفراد من حقوق المواطنة المتساوية على كافة المستويات والحقول : كالمشاركة في الإنتاج والاستهلاك ، والعمل السياسي ، والمشاركة في الحكم والإدارة والتفاعل الاجتماعي . الاستبعاد الاجتماعي يتعارض مع مبدأ الفرص المتكافئة وحقوق المواطنة المتساوية. ونقدم الاستبعاد الاجتماعي هنا كونه ليس مجرد مسألة شخصية تعود إلى تدني قدرات الفرد الطبيعية والمكتسبة للفرد ، وإنما هو محصلة نمط اجتماعي - سياسي سائد في المجتمع تترابط وتتنوع فيها الملامح والأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية فتعمل على إقصاء وتهميش أفراد وجماعات داخل المجتمع طبقا لاعتبارات تقررها وتُفعّلها المنظومة وتعيد إنتاجها بصور مختلفة. ويتولى الاستبعاد في أول الأمر وآخره انتهاك قيم العدالة الاجتماعية وتدمير أسس التعايش والتضامن الاجتماعي بين أبناء الوطن الواحد. يؤدي الاستبعاد إلى وجود فرص تعليمية ومهنية غير متكافئة ، وبناء العوائق والسدود أمام الجماعات والأفراد الذين أستبعدهم النظام من "رعايته وحمايته" بما فيهم جميع الفقراء والعاطلون والمهمشون الذين هم نتاج لهذا الاستبعاد. فالجياع وسيئو التغذية على سبيل المثال يتعذر عليهم أن يتلقوا تعليما وتحصيلا جيدا ، كما أن غياب الدخل بل نقصه سيحاصر خيارتهم في تأمين وسائل التعلم والرعاية الصحية الجيدة التي ينالها المحظوظين من أبناء وطنهم فتصبح المنافسة غير عادلة وغير متكافئة. المدارس الخاصة على سبيل المثال التي تتاح لأبناء النخبة لا تكرس فقط الاستبعاد ولكنها تمارس العزل الاجتماعي بين أبناء الوطن الواحد.
ولما كان الاستبعاد الاجتماعي في اليمن مسألة هيكلية غائرا في بنية النظام ونمط الحياة السائد فقد اخذ كل كل الأشكال المنتجة له بما فيها الاقتصادي والسياسي والقانوني والعرفي والاجتماعي والجغرافي والديني والطائفي وغيرها كالتمييز والإقصاء على أساس الجنس واللون ليغدوا نمطا كليا من الاستبعاد يعيد إنتاج وتكريس وظيفته بأشكال وأدوات ومساحات واسعة ومتعددة. ودون الدخول في التفاصيل فواقع وضع المرأة اليمنية ، والفئات الهامشية "كالأخدام" والأطفال ، وسكان بعض المناطق الجغرافية كتهامة والمناطق الجنوبية وتلك غير المشمولة بالروابط القبلية والعائلية ذات التسلسل الحاشدي ، وبعض الطوائف الدينية كالطائفة اليهودية والإسماعيلية والشيعة ، وغير المنتمين حزبيا أو سياسيا لغير الحزب الحاكم أو غير الموالين له والأفراد أو الجماعات غير المنضوين في شبكة الموالاة التي انتظمت طوعا أو كرها بالنظام الشمولي العائلي أمثلة بينة على الممارسات العملية للاستبعاد الاجتماعي في اليمن. ووعينا وفهمنا الصحيح والكامل بمشكلة الاستبعاد تساعدنا في التصدي له والخلاص منه.