على مدى العشرية الماضية من القرن الحالي، شهدت العلاقات اليمنية الإيرانية حالتي مد وجزر شديدتين، تميزت حالة الجزر فيها بأنها كانت السائدة والأكثر بروزاً، خاصةً بعد اندلاع المواجهات المسلحة بين جماعة الحوثي "الشيعية" المتمردة في محافظة صعدة شمال اليمن وقوات الجيش اليمني في يناير/كانون الثاني 2004.
منذ ما بعد قيام الثورة الإيرانية عام 1979 وما مثلته من بروز لمتغير إقليمي جديد ممثلاً بجمهورية إيران الإسلامية كقوة صاعدة على المشهد الدولي والإقليمي، كان ثمة شيء ما غير مألوف تزامن ظهوره مع قيام هذه الجمهورية "البراغماتية"، ألا وهو مبدأ تصدير الثورة الذي كان بمثابة حبات اللقاح أو الإخصاب لما بات يطلق عليه اليوم بالطائفية السياسية في العالم العربي.
فعلى امتداد الثلاثين عاماً الماضية من عمر هذا الثورة "الخمينية" وهذه الجمهورية تعيش حالة من الخصومة غير المعلنة مع محيطها العربي كله، انفجرت حرباً طاحنةً مع عراق وبعث صدام حسين، وعلاقة حميمية مريبة مع سوريا وبعث حافظ الأسد "النصيري" طائفياً.
أما علاقة اليمن بإيران فلم تكن سوى انعكاس طبيعي لعلاقة النظام الحاكم في صنعاء حينها مع نظام حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في بغداد، والذي كانت تجمعه علاقة قوية بنظام صنعاء، وصل إلى مراحل متقدمة تمثلت في وقوف اليمن ودعمه المباشر للعراق في حربه الضروس مع إيران حينها بين عامي 1980 و1988.
لحظة التمدد الإيراني
لم يكن التمدد الإيراني في اليمن وليد لحظة ما متأخرة بقدر ما كان وليد تراكم لمحاولات سابقة عديدة للاختراق والتواجد على الأرض اليمنية، كغيرها من البلدان العربية الأخرى مثلما صنعت في لبنان والعراق وسوريا وغيرها، بدافع مبدأ تصدير الثورة الإسلامية التي لم تكن سوى غطاء للإستراتيجية الإيرانية القائمة على السيطرة ومد النفوذ في محيطها الإقليمي والعربي تحديداً.
لكن المحاولات الإيرانية في الحالة اليمنية كانت في كل مرة -وخاصة قبل قيام ثورة فبراير/شباط السلمية- تخفق في تحقيق كل أهدافها، لأسباب عدة في مقدمتها تمايز الحالتين الشيعيتين الزيدية يمنياً والاثني عشرية إيرانياً، نظراً لما بينهما من عداء تاريخي وصل إلى درجة تكفير الاثني عشرية من قبل مؤسس المذهب الهادوي الزيدي في اليمن الإمام الهادي يحيى بن الحسين الرسي (245-298ه).
غير أن السياسة الإيرانية بفعل متغيرات ثورة 1979 وبغطاء "تصدير الثورة"، بذلت جهوداً كبيرة لنشر التشيع في اليمن طوال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي عبر استقدام بعثات طلابية يمنية للدراسة في إيران وسوريا ولبنان. لكن تأثيرات مثل هذه الأساليب لم تكن كبيرة بحكم براغماتية التدين اليمني وعوامل أخرى تاريخية واجتماعية لم تساعدهم في تحقيق كل أهدافهم تلك.
بيد أنه بفعل متغيرات عدة طرأت -محلية وإقليمية- فرضتها مفاعيل ثورات الربيع العربي، وجد الإيرانيون الفرصة سانحة للتدخل بحثاً عن مناطق للنفوذ، وبشكل أكثر وضوحاً.
لذا عقب مجزرة جمعة الكرامة 18/5/2011 والإعلان عن المبادرة الخليجية، بدأت عملية الاستقطاب والتجنيد للمشروع الإيراني في اليمن بشكل أكثر وضوحاً، وذلك بتجنيد واستقطاب شباب وناشطين وتسفيرهم خارج اليمن تحت لافتة إقامة مؤتمرات وورش عمل وندوات يستدعى لها عدد من الناشطين الشباب والأكاديميين ومشايخ القبائل وغيرهم للحضور إلى بيروت أو طهران أو دمشق، وكان في كل مرة يتم اختيار مجموعة منهم وتأهيلهم لما بعدها من دورات إعلامية أو أمنية أو عسكرية أو سياسية.
عناوين التدخل الإيراني
ومع توقيع المبادرة الخليجية بشأن انتقال السلطة سلمياً في اليمن، بدأت تظهر بقوة ملامح هذا التغلغل الإيراني بتمويل طهران لعدد من الأحزاب كحزب الأمة والحزب الديمقراطي اليمني، عدا عن تمويل عدد من وسائل الإعلام ما بين صحف وقنوات فضائية كتلك التي تم إطلاقها بالتزامن مع إطلاق قناة الميادين الإخبارية حيث تبث جميعها من بيروت، كقناة المسيرة التابعة لجماعة الحوثي وقناة الساحات ذات الصبغة "غير المذهبية".
ولم يقتصر دعم إيران لحلفائها فقط على الجانب الإعلامي، بل تعدى الأمر إلى تمويلهم مالياً وتزويدهم بالسلاح والتدريب عليه عبر مدربين لبنانيين وعراقيين، حيث تشير بعض المعلومات أنه تم تدريب أعداد كبيرة من الأفراد التابعين لجماعة الحوثي أو من أنصار الحراك المسلح طوال الفترة الماضية.
ويأتي في هذا الإطار حادثة إيقاف السفينة الإيرانية "جيهان1" في مياه خليج عدن يوم 6/2/2013 وهي قادمة من إيران محملة بكميات كبيرة من الأسلحة الثقيلة والمتطورة، وتصريح رئيس لجنة الهيكلة بوزارة الداخلية الدكتور رياض القرشي بأن تلك الأسلحة كانت متوجهة إلى الحوثيين، دليلاً كافياً على مدى التورط الإيراني في اليمن خلال هذه المرحلة، عدا عن الاتهامات المتكررة لطهران من قبل الرئيس عبد ربه منصور هادي في أكثر من مناسبة.
ولم يجد الإيرانيون مناسبة -كقوى تريد أن تظهر دورها الإقليمي في المنطقة- للتمدد والتأثير على مجريات السياسة في اليمن، مثلما سنحت لهم الفرصة الراهنة بذلك، فعملوا بكل طاقتهم من أجل أن لا تفوتهم فرصة ثمينة كهذه مكنهم منها انعدام وجود إستراتيجية واضحة المعالم لدى خصومهم في الخليج، وربما تواطؤ الأميركان في الأمر مثلما حصل في الحالة العراقية التي سلمت فيها للإيرانيين على طبق من ذهب.
ومثلما وجد الإيرانيون فرصة ثمينة لتحقيق مصالحهم الإستراتيجية، فقد وجدها الحوثيون أيضا فرصةً أثمن يحاولون من خلالها تحقيق حلمهم التاريخي العقائدي في الحكم، وإعادة ترتيب أوراقهم عبر البحث عن حلفاء لهم، وهو ما كشف عن سعيهم الحثيث للتحالف مع الرئيس السابق علي عبد الله صالح وبقايا أسرته.
لا يخفى على كثير من الباحثين أن سبب هذا النشاط الكبير والمحموم لدى هذه الجماعة الطائفية في إعادة الانتشار والتمدد بالقوة والسياسة، هو دخول العامل الخارجي الإيراني بقوة في هذه المرحلة بالذات، وهو الدور الذي لا يخفى وجوده على كثير من المراقبين، من خلال حالة الانفتاح والدعم الكبير الذي تتمتع به هذه الجماعة على أكثر من صعيد، رغم حداثة نشأتها نسبياً.
ومما ساعد في خدمة مشروع الحوثيين أنهم استفادوا من حالة الصراع الإقليمي المحتدم بين محوري إيران والمملكة العربية السعودية، فكان رفضهم للمبادرة التي ترعاها رسميا المملكة بإيعاز إيراني تبدى بشكل كبير من خلال ازدياد نشاط طهران الكبير على الساحة اليمنية، وخاصة مع إقالة صالح وصعود هادي إلى الرئاسة، حيث عملت إيران على إعادة تأهيل كثير من كوادر الحوثيين وكل الذين يلتقون عند هدفهم.
إن العلاقة القائمة اليوم بين إيران وجماعة الحوثي علاقة سياسية براغماتية ترتكز على تحقيق مصالح الطرفين، بغض النظر عن الخلاقات المذهبية التي تسِم علاقاتهم التاريخية، بينما لا يخفى مدى اتساق ذلك مع الإستراتيجية الإيرانية في التمدد والانتشار من خلال جيوب الجماعات الطائفية كالحوثية، لاستخدامها كأوراق سياسية في وجه خصومها ومنافسيها الإقليميين والدوليين.
إيران والحراك الانفصالي جنوبا
ما يميز الحالة السياسية الإيرانية جيداً هو إستراتيجيتها القائمة على نوع من البراغماتية المفرطة في تعاملها مع كل الظواهر والأحداث والأشخاص من حولها، بحيث يتم تسخير كل شيء تباعاً لمرتكزات تلك الإستراتيجية القائمة على تحقيق المصالح الإيرانية القومية وبأي شكل أو ثمن كان، ولا تقف عند سقف أيدولوجياتها الطائفية الضيقة.
فالمجتمع اليمني الجنوبي شافعي المذهب، ولم يخضع يوماً لحكم دولة الأئمة الزيدية إلا في فترة تاريخية قصيرة وعابرة كغيره من بقية أجزاء وسط اليمن، بينما رزح تحت حكم الاستعمار البريطاني لما يزيد عن قرن من الزمن.
وبعد رحيل الاستعمار في نوفمبر/تشرين الثاني 1967م، حُكم جنوب اليمن بعد ذلك من قبل نخبة سياسية يسارية ممثلة بالحزب الاشتراكي اليمني منذ العام 1976، والذي استمر في الحكم حتى إعلان قيام الوحدة اليمنية مع شمال اليمن في مايو/أيار 1990.
وأزاحت حرب صيف 1994 بين طرفي الوحدة الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام، نخبة الحكم الجنوبية عن دائرة القرار، وتعاملت سياسات الرئيس السابق صالح مع الجنوب كأرض محتلة مورست فيها كل أنواع الظلم والفساد في حق أبناء الجنوب، وهذا ما أدى بعد ذلك إلى تفجر ثورة شعبية سلمية جنوبية منذ عام 2007 ضد نظام صالح. وتطورت مطالب هذه الحركة الجنوبية في وجه القمع وعدم الإصغاء، من مطالب حقوقية إلى مطالب سياسية متابينة بين الانفصال والفدرالية.
وبتفجر ثورة 11 فبراير/شباط السلمية الشعبية في كل أرجاء اليمن شمالاً وجنوباً، وجد الجنوبيون أنفسهم في خندق واحد مع إخوانهم الشماليين ضد نظام صالح الذي سقط سلمياً، ليعتلي الحكم نائبه الجنوبي الرئيس هادي بموجب المبادرة الخليجية المدعومة دولياً.
بيد أنه بعد توقيع المبادرة الخليجية، كان هناك عدد من أطراف النخبة الجنوبية السابقة في الحكم -مثل علي سالم البيض نائب رئيس دولة الوحدة- يصر على الاستمرار في ما أسماها الثورة الجنوبية لاستعادة دولة الجنوب العربي، ذلك المطلب الذي يتلاشى يومياً مع الاستمرار في تحقيق أهداف الثورة اليمنية السلمية، ووقوف المجتمع الدولي والإقليمي ضده، باستثناء إيران التي وجدت في موقف البيض ضالتها.
وهنا بدأت عملية الاستقطاب والتجنيد للمشروع الإيراني في جنوب اليمن بكل أنواع الدعم والتمويل المالي والتدريبي والإعلامي، كقناة عدن لايف الناطقة باسم الحراك المسلح والتي تبث من بيروت.
وترتكز الإستراتيجية الإيرانية في دعمها لفصيل البيض بالمال والسلاح، وتدريب عناصره على إستراتيجية الفوضى الأمنية لعرقلة جهود الاستقرار في الجنوب، ليتمكن حلفاؤهم الحوثيون من التمدد المسلح على الأرض وكسب مزيد منها شمالاً.
"
الأهم بالنسبة للإستراتيجية الإيرانية هو موقع اليمن في خاصرة السعودية التي يسعى الإيرانيون لتطويقها جنوباً بعدما نجحوا في تطويقها شمالاً بإسقاط نظام صدام حسين
"
اليمن في الإستراتيجية الإيرانية
موقع اليمن الإستراتيجي والتماثل الطائفي شمال الشمال هما ركائز الإستراتيجية الإيرانية تجاه اليمن، والتي تزداد أهمية لدى الإيرانيين كلما اقتربت لحظة سقوط نظام بشار الأسد في دمشق، حليفها الأبرز.
فقرب اليمن الجغرافي وإطلاله على أهم ممرات الطاقة في العالم ممثلاً بمضيق باب المندب الذي يعبره قرابة 3.2 ملايين برميل نفط يومياً، عدا عن سعي دولة الإمارات لشق قناة الإمارات لنقل النفط إلى بحر العرب وخليج عمان، بديلاً عن مضيق هرمز الواقع تحت السيطرة الإيرانية، كل هذا في حسبان الإستراتيجية الإيرانية.
بل الأهم بالنسبة للإستراتيجية الإيرانية هو موقع اليمن في خاصرة المملكة العربية السعودية التي يسعى الإيرانيون لتطويقها جنوباً بعدما نجحوا في تطويقها شمالاً بإسقاط نظام الرئيس صدام حسين في بغداد، وتمدد النفوذ الإيراني فيها بفعل مليشياتها الحاكمة.
هذا عدا عن أن جزءا من إستراتيجية الإيرانيين يقوم على تعويض أي خسارة قد تحدث لنفوذهم بسوريا هنا في اليمن، ومحاولة تكرار تجربة حزب الله اللبناني واستنساخها أيضاً من خلال جماعة الحوثي.
ومما يزيد من خطورة نفوذ إيران في اليمن غيابُ أي إستراتيجية مقابلة لها حاليا، سواءً لخصومها الخليجيين، أو للمجتمع الدولي الذي لا يرى غضاضة في تقاسم النفوذ والمصالح مع أي قوى تثبت نجاحها في مد نفوذها هنا أو هناك، كما هو الحال بالنسبة للعراق الذي انتهى به المطاف كأفغانستان في السلة الإيرانية حسب الرئيس أحمدي نجاد ذات حديث.