آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

27 إبريل.. رمتني بدائها وانسلت

مع كل يوم يمر عليّ؛ تزداد قناعتي أن قابيل خلّف ذرية متطبعة بطباعه لحظة أن أردى أخاه هابيل قتيلا، وأن كل واحد من تلك الذرية يحمل في يمينه آلة موت يبتغي بها قتل أخيه كما صنع ذلك القابيل بأخيه هابيل.. و"اللي خلّف ما متش" كما يقول المثل الشعبي.

في أواخر السبعينات إلى أوائل الثمانينات، كانت قريتي وقرى مجاورة تدفع أبنائها لمواجهة وقتال سرّاق الفتيات، وقطاع الطرق، والساعين ليلا لقتل كل معارض لمشروعهم "الماركسي"، ومع كل مواجهة معهم يسقط أولئك الشباب صرعى في حقول الألغام والكُمناء؛ في شخَب عمّار، ودمت، وعتمة، وريمة، ووصاب، وشرعب، والعدين، والحُشاء، وفي مناطق أخرى انتشر فيها ذلك السرطان الماركسي.

كما لم يسلَم الرعاة، ولا الأطفال، ولا الحيوانات، ولم تسلم منابع المياه، ولا منابت الشجر، ولا دور العبادة. وأضحى السير في مناطق تواجد أولئك الجبهويين الماركسيين ضرب من المخاطرة التي لا تبقى إلا على كل ذي حظ فريد!!

سألت أبي ذات يوم وهو يدفع بأحد إخوتي إلى القتال: من هم هؤلاء الجبهويون الماركسيون؟ فأجاب: إنهم أناس ملثمون، يعاقرون الخمر، ويهاجمون ليلا، فيسرقون الماشية، ويفتنون الصبايا، ويزرعون الألغام في الطرقات، ويقتلون من لا يؤمن بأن "ما لله لله وما لقيصر لقيصر".. الحقّ أنني فهمت كل شيء قاله إلا آخر كلامه المتفلسف!!

عندما كبُرت، قُدّر لي أن أكون في مايو عام 1994م، على رأس رهط يفترض أنهم من أنقى شرائح القوم وأنبغهم؛ إلا أنه لم يكن ذلك النقاء والنبوغ حاضرا في جلّهم، وكنت وأنا أرأس ذلكم الرهط أحس أن بعضا منهم كانوا على مسلك الزعيم قابيل، وأنهم يبيّتون لرفقائهم أمرا لا يُولَد إلا في ليل ماكر؛ فتركنا لهم الأبواب مواربة لِأنْ يهربوا لحظة أن يجدوا أنفسهم تحت قبضتنا وقد كشفنا أمرهم، وكل ذلك رأفة بهم، وهي لحظة من لحظات القوة التي لا يصنعها إلا الكرماء.. {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ }المائدة، 28.

وانسلوا فجرا من كل مفرّ بعدما عرفوا أننا كنا نحصي أنفاسهم دون ابتغاء أذاهم، وما كادت الأيام الخمس التالية تنقضي، ويتعانق عقرب الدقيقة الستين مع عقرب الساعة السادسة صباحا إلا وتُسقِط علينا طائراتهم شواظيَ من نار، وكان لطف الله بنا منها أقوى وأبرد، ولم نندم معها لأننا لم نكن نروم مقابلا على ذلك أبدا.

هذه حكايتي معهم أيها الصديق، فما حكايتك با أبا عَمران؟ قال: ليس يفْرق بين ما عندي وما عندك إلا تاريخ اليوم الذي غُدرنا فيه، وكنا نحن-ظلما- في موقع الجلاد، وهم في موقع الضحية، مع أن النقيض هو الحقيقة!! قلت: ومتى كان ذلك؟ قال: يوم 27 إبريل عام 1994م، يوم أن أطاعوا كبراءهم وقتلوا رفقاء سلاحهم غيلة، ثم ألقوا علينا بعدها التهمة.. كنت يومها قد أُبلِغتُ أن الله قد رزقني بفتى فأسميته "عَمران" تخليدا ليوم ذلك الغدر، في مدينة أسعد الكامل "عمران"، فالعَمَار أثمر، والغدر إلى بوار.

حقا، كما تقول العرب: "رمتني بدائها وانسلّت"!!

زر الذهاب إلى الأعلى