يُعرف الفساد بأنه درجة الانحراف عن المنظومة القانونية والقيمية التي تتبعها الدولة ومؤسساتها والمجتمع وأفراده ، ووفق التعريف لا تخلو دولة من وجود نسبة من الفساد غير أن الالتزام بالقانون والنزاهة هو الأصل والانحراف عن القانون والفساد هو الاستثناء.
خلافاً لهذه الوضعية الطبيعية للأصل والاستثناء كانت الحالة في اليمن معكوسة، حيث أصبح الفساد عُرفاً وقانوناً سائداً بينما النزاهة والالتزام بمقتضيات القانون هو الاستثناء.
وقد تولدت هذه الحالة بسبب الفساد السياسي في قمة الدولة سابقاً وتبنيه منهج الفساد والإفساد على جميع المستويات.
وأدى ذلك النهج إلى تعطيل معايير تولي الوظيفة العامة في كل مؤسسات الدولة وتعطيل الأدوات الرقابية، باعتبارها نظاماً متداخلاً مع كل مراحل أداء العمل العام وسابقة عليه ولاحقة له.
تشكيل هيئة لمكافحة الفساد يمثل طريقة تلائم النظام السابق وتلبي حاجته الشكلية لتمويه جوهره ، ولا تلائم الوضع الجديد الذي يحتاج إلى إحداث قطيعة مع الماضي وأساليبه وتأسيس نظامه ابتداءً وفق منهج مكافحة الفساد ، وبناء دولة قانون تخلف دولة الفساد ، ونظام سياسي يدير الدولة استناداً لحكم القانون ومعيار المصلحة العامة خلفاً لنظام سياسي استولى على الدولة وامتلكها وأخضعها لإرادة نخبته الاحتكارية. هناك معطى لا بد من التأكيد عليه يتمثل في شعار التغيير الذي أسس المسار الذي نمضي فيه الآن ، ووجود نظام جديد « افتراضاً ، أو ينبغي وجوده » وأن نظام صالح قد سقط، وبالتالي فمكافحة الفساد ينبغي أن تحدث ابتداء من طريقة إدارة الدولة ومؤسساتها وتكون حاضرة في كل العمليات الجارية من هيكلة المؤسستين العسكرية والأمنية وإدارة الحكومة والوزارات ومعايير الاختيار والتعيين في الوظيفة العامة والمواقع القيادية العليا والوسطى وكل مايتعلق بالمرحلة الانتقالية وما تصيغه من قوانين ولوائح وماتؤسس له من هياكل وطرائق عمل ومعايير أداء.
كان قرار إلغاء الترشيحات لهيئة الفساد صائباً من قبل القضاء الإداري، ذلك أن الهيئة بحد ذاتها إجراء شكلي، ناهيك عن فساد الترشيحات لعضويتها، فقد تشكلت في عهد النظام السابق ، وفي ظل الشكوى العامة مما آلت إليه الأوضاع آنذاك وتشديد المانحين والمؤسسات الدولية على النظام من أجل مكافحة الفساد المستشري جاءت فكرة تشكيل هيئة عليا لمكافحة الفساد ، وأدت ظروف تشكيلها والمعطيات العامة في السلطة والدولة والمجتمع السائدة آنذاك إلى ولادتها كإجراء شكلي خارج سياق النظام العام للدولة ومؤسساتها التي لم تشهد أي تغيير.
وذلك أن مصلحة النخبة المسيطرة آنذاك تقتضي تغييب العدالة وحكم القانون وليس حضورهما. ولهذا بقيت الهيئة شكلية وبقي النظام يحرس الفساد ويحميه، إلا ما اقتضاه الترويج الإعلامي من السماح ببعض الاختراقات في المستويات الدنيا غير المؤثرة ، أو استخدام الهيئة مثل ما درج عليه النظام في استخدام الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة كأداة لضبط إيقاع حركة هيكل الفساد نفسه وتوثيق ملفات رموزه تلبية لحاجة المايسترو الأكبر للجوقة كلها.
على العكس من ذلك فإن مكافحة الفساد في الوضع الذي جاء بعد النظام ولم يتشكل بعد كنظام جديد تكمن تحديداً في الطريقة التي يتم بها إدارة النظام والقوانين والهياكل الأساسية الي تبنى على أساسها الوظيفة العامة ومعايير توليها وليس من خلال هيئة منفصلة عن النظام نفسه.
وأكبر فساد شهده الوضع الراهن هو تغليب معايير الشللية المافيوية ، والمحاصصة والتقاسم الحزبي في الوظيفة العامة. فبدلاً من تقديم نموذج مغاير لأساليب النظام السابق التي اتبعت معايير الولاء والقرابة الأسرية والقبلية واتسمت أساليب تدوير الوظيفة العامة لديها بالزبائنية النفعية، ذهب الوضع الجديد ليحرث في نفس الوادي بمعايير تفقد الوظيفة العامة استقلاليتها ومعاييرها الفنية المحايدة.
تعمل الآن الروابط الفاسدة المحترفة على ملأ الفراغ وتوسيع شبكاتها في كل مفاصل مؤسسات الدولة.
نظرة سريعة على نماذج من التعيينات في مؤسسات الدولة تكشف لنا أن بعض من تسلقوا إلى مراتب عالية لم يكن بإمكانهم أن يصلوا إليها في ظل نظام صالح، بل إن ذلك المستحيل بعينه، ليس لأن النظام كان نزيهاً، بل باعتباره نظام فساد محترف كان لديه سجل تصنيفي معياري يدرك أحجامهم ونوعياتهم والوظائف المناسبة لهم ونوعية الأدوار التي ينبغي أن يؤدوها والسقف الوظيفي والمادي الذي يلائمهم.
مكافحة الفساد تبدأ من إرساء أسس جديدة لإعداد موازنة الدولة تعكس أهداف الثورة وشعار التغيير الذي استشهد وجرح من أجله آلاف الشباب.
مكافحة الفساد تبدأ من إيقاف صرف 13 مليار ريال مخصصة لشراء الضمائر والمواقف والساسة والمعارضين والموالين والأقلام باسم الإعاشات لنخبة أصلاً تعيش فوق ما تستحق.
مكافحة الفساد تبدأ بمكافحة المسؤولين الكبار الذين يضربون مثلاً سيئاً وقميئا ًو مقززاً إذ يتهافتون على توزيع مواقع الوظيفة العامة على شللهم وارتباطاتهم المافيوية وجلسائهم ، ويخدعون الرئيس ويحتقرون الثورة وتضحيات الثوار ويبصقون في وجه شعبهم مرة أخرى في وقت لم تجف فيه بعد دماء الشهداء والجرحى.
( إلغاء الرئيس للقرار رقم 24 سيء الصيت يثبت ان الرقابة الشعبية حاضرة ومؤثرة ، وأن الرئيس يصغي فعلا لشعبه.)