[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

الجنوب عشية الوحدة (1)

(هذا المقال فصل من كتاب «الوجه الآخر للقضية الجنوبية.. كم عمر المظالم في جنوب اليمن» والذي نرجو إصداره قريبا.. وقد ارتأينا نشره بعد قراءة رؤية الكذب الشامل التي تقدمت به مجموعة الحراك الجنوبي في لجنة القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار الوطني.. على أمل ان نبدأ بعده نقد تلك الأكاذيب بعون الله).

[1]لأن مشاريع فك الارتباط والانفصال، وإنكار يمنية الجنوب تتصادم مع مبادئ وقيم إسلامية وقومية ووطنية تسكن في ضمائر اليمنيين وقلوبهم وعقولهم؛ فقد كان لابد من البحث عن أي حيثيات مهما بلغ تهافتها لتبرير الدعوة إلى تلك المشاريع الصغيرة، ودغدغة عواطف الناس عن طريق تزييف وعيهم بحقائق التاريخ اليمني المعاصر استغلالا لحالة الإحباط وانسداد آفاق التغيير، والمزاج العام الكاره للنظام وسياساته الشيطانية، وفشله الاقتصادي والأمني والمعيشي.

حيثيات كثيرة- سياسية واقتصادية واجتماعية وحتى رياضية!- كانت مادة لتناولات صحفية وخطابية أريد بها تأكيد صوابية مطلب الانفصال وفي مقدمتها أن الجنوب والجنوبيين خسروا بسبب الوحدة مع الشمال، أو بمعنى آخر أن الوحدة كانت كارثة وخسارة بكل المقاييس.. وقد تضمنت الفصول السابقة مناقشات لتفنيد العديد من تلك الدعاوى التي أخطأت الطريق متعمدة فراحت تستهدف وحدة اليمن بدلا من تركيز جهدها لفضح الأسباب الحقيقية للأزمة التي نعيشها.

وكان من أخطر الحيثيات التي يتم بها تزييف وعي المواطنين في المحافظات الجنوبية والشرقية -استغلالا لحقيقة نفسية: أن الناس ينسون آلام الماضي مهما كانت قياسا بمعاناة الحاضر!- هو الترويج لمقولة إن الحياة في ظل دولة التشطير قبل الوحدة في الجنوب كانت متميزة، ومؤسسة على النظام والقانون، والمساواة، وتوفير الاحتياجات الأساسية للمواطن بأرخص الأسعار.. فضلا عن خلو تلك الحياة من المنغصات والانتهاكات المنتشرة في «الشمال» المتخلف!

وبالإجمال؛ يتعمد البعض الترويج لصورة جميلة عن الحياة في الجنوب في ظل التشطير؛ حتى أن المرء ليتساءل: إذا كان ذلك الأمر صحيحا؛ فلماذا كان المواطنون ينزحون من الجنوب إلى الخارج -الشمال ودول الخليج- ويتركون غير آسفين وراءهم جنة الله في الأرض.. ويتركون منازلهم وأسرهم وأولادهم وأصدقاءهم، وذكريات الطفولة والشباب، ويفضلون أن «يهربوا» عبر الجبال والوديان والصحارى معرضين أنفسهم للموت أو الاعتقال في الحدود؟ ما الذي كان يدفعهم لذلك الهروب الكبير الذي شمل الرجال والنساء والشيوخ والأطفال.. ومن جميع المستويات الثقافية والاجتماعية والمهنية.. بل إن أسرا كثيرة وبالذات في عدن اضطرت لتسليم منازلها- بكل ما يعني ذلك من قطع صلتها نهائيا بالجنوب- لحزبيين ورجال أمن واصلين مقابل استخراج رخصة تسمح بسفر العائلة بدون ضمانة.. وبدون عودة للالتحاق بعائلها الهارب قبلها؟

ما الذي دفع المؤرخ سلطان ناجي، والشاعر الأديب د.محمد عبده غانم، والموسيقار الشهير أحمد بن أحمد قاسم، والمدرب الشهير أنور غفوري، واللاعب الأسطورة علي محسن، والفنان عبد الرحمن حداد، وكثيرون مثلهم من المثقفين والفنانين والرياضيين وغيرهم من الكوادر في كل مناحي الحياة إلى ترك الجنوب والنزوح إلى الخارج والشمال بالذات؟.. لماذا حرموا أنفسهم الحياة السعيدة في جنة الله على الأرض، وفضلوا الشمال المتخلف، والدولة الرجعية، والفوضى على البقاء في الجنوب المتقدم التقدمي المدني الغارق في النظام والقانون في ظل الدولة الجنوبية الحديثة والمجتمع المدني المفقود في الشمال؟

عشرات بل مئات الآلاف من سكان الجنوب بدؤوا رحلة النزوح والشتات منذ نوفمبر 1967 حتى عشية الوحدة عام 1990؛ استقر كثيرون منهم في الشمال (المتخلف) أو واصلوا نزوحهم إلى دول الخليج الرجعية؛ بعد أن منح «الشمال» جوازات سفر للأغلبية منهم باسم أنهم شماليون ليتمكنوا من السفر إلى دول الخليج وخاصة السعودية التي كان «جواز السفر الجنوبي» عندها يساوي جواز السفر الإسرائيلي بعد أن صارت صورة «الجنوبي» عند العالم أنه الإرهابي المخرب انعكاسا لصورة النظام السياسي الحاكم! (لم نقصد بالإشارة هنا إلى عشرات الآلاف من أنصار الرئيس السابق علي ناصر محمد الذين نزحوا أو هربوا إلى الشمال في أعقاب أحداث 13 يناير الدموية.. وإن كان هؤلاء أيضا دليلا على ما قلناه).

هذا التناقض الفاضح بين مآسي وآلام التاريخ القريب جدا الذي عاشه الجنوبيون قبل الوحدة وبين الصورة المزيفة التي يراد من خلالها الترويج للانفصال وعودة الدولة الجنوبية السابقة؛ دولة العدل والقانون والنعمة.. إلخ.. هذا التناقض يمكن ملاحظته ورصده بسهولة من خلال شهادات الأحياء الذين عاصروا الفترتين..لكن يمكن إثباتها من مصدر يصعب رده وهو ما نشر في صحافة الدولة الجنوبية نفسها من شكاوى المواطنين أثناء الفترة التي سبقت قيام الوحدة أو تلك التي تلتها مباشرة.. ففي تلك السنوات تمتعت الصحافة المحلية في عدن بهامش غير مسبوق من الحرية لنقد أداء أجهزة الدولة ومؤسسساتها وحتى بعض المستويات الدنيا من الأجهزة الحزبية، وحفظت لنا وللتاريخ صورة حقيقية لمعاناة المواطنين في الجنوب تتناقض تماما مع الصورة الوردية المزيفة التي يتم الآن تسويقها إعلاميا وسياسيا!

[2]في البدء؛ ينبغي التنبيه إلى أن معايير تقييم الأنظمة لا يجب أن تستند في الأساس- فضلا عن أن تكون الوحيدة- إلى مستوى المعيشة أو حتى إلى قوة النظام العام للدولة التي تحكم قبضتها على كل شيء.. فمثل هذه المعايير يمكن أن تشترك فيها أنظمة كثيرة لا يجمع بينها إلا أنها أنظمة ديكتاتورية استبدادية قمعية باسم الطاغية الفرد أو العائلة المالكة أو الحزب الحاكم الأوحد، وهي على رغم كونها ميزات لكنها لا تصلح أن تكون معايير صحيحة لتقييم أنظمة الحكم؛ لأن مصيرها إلى زوال تماما كما حدث مع كثير من الأنظمة التي كانت قبضتها الحديدية توفر للشعوب «أمنا» ظاهريا.. أو كانت توفر مستوى معيشيا مرتفعا بسبب ثروات البترول ثم تهاوت مثل بيوت الرمال، ولم ينفعها «رخص الأسعار» ولا حالة أمنية ممتازة.. ولا مستوى معيشي كبير.. ولنتذكر بلدانا مثل ألمانيا الديمقراطية، والاتحاد السوفيتي، والعراق، وليبيا.. ثم لنسأل أنفسنا: أين صارت وإلامَ انتهت؟ وماذا نفع الشعوب أن الأسعار الرسمية كانت مخفضة (وإن كانت رفوف المحلات خالية منها ولا يجد المواطن أمامه إلا الزبدة والخبز.. وهذا فقط في الدول المحظوظة؛ أما في الدول غير المحظوظة فقد كان الهم الأكبر للمواطن هو كيف يوفر خبز العشاء منذ الظهيرة.. وكيف يسابق جيرانه قبل طلوع الفجر إلى السوق للحصول على سمك أو لحم أو خضار من أي نوع كان.. وبأي حال تكون عليها!).

دروس التاريخ تعلمنا -كما سلف- أن سلامة النظام السياسي أن يتأسس على أسس دستورية عادلة، ويحل إشكالية السلطة حلا جذريا ويضعها بين يدي الشعب عبر الانتخابات الحرة النزيهة؛ فهذه هي أهم ضمانة للحياة الكريمة.. وهي أبرز ضمانة للحفاظ على المنجزات المادية التي تحققها الحكومات المتعاقبة. أما الديكتاتورية مهما كان شعارها، وإقصاء الآخر، وتأميم الشعب وجعله مجرد مصفق بلا وعي فتؤدي في الأخير إلى انهيار كل شيء وضياع أي منجزات مادية تكون قد تحققت.. فالفارق بين الحالتين أن هناك أنظمة تبني «الدولة» لصالح الشعوب فتحرص على توفير كل مقومات الحرية والاحتكام للدستور والقوانين، وتجعل الشعوب هي الحاكمة الحقيقية.. ولا يكون للزعماء والأحزاب إلا دور القيادة المؤقتة الملتزمة بالمدة الدستورية للحكم فإذا انتهت هذه غادروا السلطة دون مشاكل أو تعنت؛ فيتحقق الاستقرار السياسي الذي يجلب معه التقدم الاقتصادي والثقافي والعلمي، وتستطيع «الدولة» في إطار هذا الاستقرار أن تحل مشاكل التنمية وأية مشاكل أخرى دون أن تجعل الشعوب تدفع ثمنا غاليا وباهظا للصراعات السياسية الدموية.

وفي الحالة الأخرى.. فإن «الدولة» يرتبط بناؤها بالحاكم الفرد الطاغية أو الحزب الحاكم الأوحد الذي لا صوت يعلو على صوته.. أو بالعائلة المالكة للوطن والشعب والثروة.. وهنا لا تنفك الشعوب تعاني من الصراعات الدموية على السلطة والثروة والنفوذ، وتدفع أثمانا باهظة من حاضرها ومستقبلها.. وتكون النتيجة في الأخير انهيار هذا النوع من الأنظمة ومعه ما يمكن أن يكون قد تحقق من منجزات مادية

إذا؛ فالمعايير السليمة لتقييم الأنظمة هي تلك التي تتصل بمواصفات الاحتكام للدستور والقانون والمساواة أمامهما دون تفريق أو حرمان مواطن منها، والعيش في ظل منظومة الحريات والحقوق الإنسانية الأساسية المتكاملة المحددة في النظام الديمقراطي السليم. وتتمايز الأنظمة التمايز الحقيقي بمقدار التزامها بتلك المعايير أساسا.. ولا عبرة لميزات أخرى إن فقدت أو شوهت وتلاعب بها الحكام وأفرغوها من مضامينها.

[3]الأوضاع العامة في دولتي اليمن قبل الوحدةلم تكن ملتزمة بالمعايير المذكورة سلفا، ولا يجوز أن نجعل من وجود إيجابية ما هنا أو هناك مبررا لرفض الوحدة والترويج لمفاهيم خاطئة عنها؛ لأن ما هو معروف عن النظامين الحاكمين في الجنوب والشمال قبل 1990لم يكن ليجعل من أحدهما النظام المثالي. وفي جنوب اليمن قبيل الوحدة 1990 بالذات لم تكن الأوضاع العامة -وما كان لها أن تكون- على هذه الصورة الوردية التي يراد اليوم الترويج لها ليس دفاعا مفهوما عن خيارات سياسية ولكن لتزييف وعي المواطنين، وإقناعهم بالانفصال، وبخطأ الوحدة التي جمعت شمل اليمنيين في دولة واحدة.. ويهمنا هنا التركيز على ما كانت عليه الأوضاع العامة في الجنوب لأنها هي التي يستند إليها دعاة فك الارتباط والانفصال في تبرير دعاواهم.. أما النظام في الشمال فقد كانت له سيئاته الكبرى، ويفتقد إلى معايير الدولة العادلة الصالحة، لكن بحسب علمنا لم يطالب بالانفصال أحد للعودة إلى وضع ما قبل الوحدة بناء عن أن الحياة في الشمال كانت أفضل قبل الوحدة.

ورث النظام؛ الذي استلم السلطة في جنوب اليمن في 30/11/1967؛ «دولة» سهل توحيد أجزائها من السلطنات والمشيخات والإمارات بالإضافة إلى مستعمرة عدن في ظل دولة واحدة. ولم تكن السهولة التي تم بها توحيد ما يقارب 20 وحدة سياسية في دولة واحدة عملية إعجازية كما يراد الآن تصوير الأمر بقدر ما كانت نتيجة لعوامل عديدة منها:
1- ضعف تلك الوحدات السياسية التي كانت تحكم قبل الاستقلال واعتمادها على الدعم البريطاني الذي بمجرد أن زال تهاوت تلك السلطنات والمشيخات والإمارات وكأنها لم تكن قائمة.
2- لم يكن الوضع في الجنوب؛ على الأقل منذ نشوء اتحاد الجنوب العربي عام 1958؛ قائما على التجزئة السياسية الحدية بين المناطق التي تجعل من توحيدها شيئا صعبا؛ فالشعب اليمني في الجنوب ظل شعبا واحدا رغم تلك الأسماء والأوصاف.. ورغم الهويات المحلية التي كان الحكام المحليون والاستعمار البريطاني حريصين على تكريسها وتعزيزها.
3- القوة التنظيمية والعسكرية التي كانت تتمتع بها الجبهة القومية التي آلت إليها الأمور في الجنوب، وتمكنها من ملء الفراغ الذي حدث بعد أن رفعت بريطانيا يدها عن السلطات والإمارات والمشيخات.. وهو الأمر الذي حدث بسهولة، ودون مقاومة حقيقية.
في الإطار نفسه؛ فقد تحقق لبعض مناطق الجنوب - عدن بالذات وبعض المدن- شيء غير منكور من التنمية والتقدم المدني في ظل الاستعمار البريطاني وخاصة بعد عام 1940. وأبرز ما في ذلك توفر نسبة معقولة من مقومات الدولة: القانونية والتشريعية والأمنية والمؤسسية.. ومشاريع العمران والبنية التحتية، والممارسات الإدارية المتقدمة لأجهزة الدولة.. وهو الشيء الذي لم يكن متوفرا في الشمال بالدرجة نفسها حتى بعد القضاء على نظام الإمامة.

هذا الوضع منح الجنوب تفوقا إداريا، وسمح -بالإضافة للقبضة الحديدية للسلطة الحزبية الحاكمة- باستمرار الوجود القوي للدولة في كل مكان وفي تفاصيل الحياة اليومية للمواطن. وعاش الجنوب في السنوات الخمس الأولى من الاستقلال على قوة الدفع الذي كان المجتمع يختزنها منذ العهد الاستعماري؛ فالدولة الجديدة وجدت بين يديها أجهزة ومقومات دولة: مدنية وعسكرية وأمنية واقتصادية وتعليمية بنسبة معقولة.. ولم تعان ما عانى منه الحكم الجديد في صنعاء الذي لم يجد أمامه إلا بقايا دولة من موديلات القرون الوسطى المتخلفة.. فلا جهاز دولة حقيقيا.. ولا نظاما تعليميا حديثا.. ولا خدمات صحية معقولة حتى في المدن.. ولا اقتصادا ولا صناعات.. ولا نظاما قانونيا وقضائيا حديثا.. ولا أجهزة شرطة حديثة.. إلخ.

وكان نتيجة ذلك أن ميزان القوة -أو المميزات المادية- كان يميل لصالح الجنوب في المرحلة الأولى.. وليس إلا بعد 1972 عندما بدأ الجنوب يدخل في متاهات التطبيقات الاقتصادية الاشتراكية المتطرفة الفاشلة.. فعندها بدأ ميزان القوة -أو المميزات المادية- يميل قليلا لصالح الشمال وخاصة مع بدء تطبيق خطة إنعاش اقتصادي منذ عام 1973 ثم مع مجئ عهد الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي عام 1974، واستفادة الشمال يومها من دعم خليجي هائل استفادة مباشرة من حالة الانتعاش المالي للدول البترولية سواء من جهة تدفق المساعدات والمشاريع أو من جهة ازدياد تحويلات المغتربين اليمنيين وخاصة في السعودية.. ففي تلك السنوات شهد الشمال انفتاحا اقتصاديا وازدهارا للتجارة، وفي المقابل كان الجنوب يدخل في دائرة انكماش اقتصادي وتجاري خطير، وتقييد كبير للمبادرات الفردية، ووضع أبرز قطاعات الدولة والمجتمع في أيدي الدولة بما فيها الأعمال البسيطة كبيع الخضروات والأسماك! ولذلك كان من الطبيعي أن تزداد من عام 1972 عملية النزوح الكبيرة للمواطنين من الجنوب إلى الشمال، وإلى دول الخليج العربي حيث مجتمعات الازدهار والمستوى المعيشي المرتفع، وفرص تحسين الحياة والتمتع بخيراتها.

أما على الجانبين السياسي والعسكري؛ فقد احتفظ الجنوب بتفوقه العسكري الذي كان أبرز مظاهره: وحدة الجيش وقوة الدولة.. وبتفوقه السياسي المتمثل بوحدة الحزب الحاكم وامتلاكه أيديولوجية ثورية ذات بريق جذاب، وعدم وجود أي خطر داخلي تمثله معارضة أو انشقاقات داخلية.

وأما في الشمال فقد انتهت الحرب الأهلية الطويلة (1962-1970) لكنها أثمرت حكومة أو دولة ضعيفة، منقسمة بين قوى النفوذ القبلي والعسكري والحزبي؛ بالإضافة إلى معاناتها من تمرد عسكري يساري قوي في المناطق الوسطى، وباقتصاد ضعيف كان يعتمد على الدعم الخارجي في كل شيء. وإن كان الوضع المعيشي في الشمال قد بدا يشهد كما سلف تحسنا مع بدء تطبيق خطة إنعاش اقتصادي في نهاية عهد الإرياني، ثم تعزز ذلك في عهد الحمدي.

معادلة القوة هذه أخذت في التغيير مع تبدل الحال في الجنوب والشمال على حد سواء.. فالاستقرار السياسي والعسكري في الجنوب لقي مع نهاية السبعينيات ضربات قوية هزت صورته العامة حتى انتهى الأمر بالانهيار في أحداث يناير 1986. بينما بدأ الشمال مع بداية الثمانينات يشهد –بعد تجاوز مشاكل عهد الغشمي ومطلع عهد صالح- استقرارا نوعيا غير معهود، وخاصة بعد انتهاء التمرد اليساري، ونجاح السلطة في صنعاء في إخماد أو استيعاب أشكال المعارضة السياسية والمنافسة القبلية لمركز السلطة.

كانت سنوات الثمانينات زمن صعود لقوة النظام في الشمال.. وكانت في المقابل سنوات انحدار لقوة النظام في الجنوب، وقد انعكس هذا الانحدار على حياة المواطنين وأداء الدولة التي كانت مشهورة بالحديدية والقوة وخاصة بعد يناير 1986؛ فقد أدت الأحداث الدموية المفجعة بين تيارات الحزب المتصارعة إلى إزالة القشور التي تخفي الأخطاء والقصور، وأضعفت هيبة الدولة في النفوس، وانكشف المستور عندما سمحت الدولة بهامش من النقد في الصحافة المحلية وخاصة في السنتين الأخيرتين اللتين سبقتا الوحدة. وفي بطون مجلدات الصحف الرسمية في الجنوب (14 أكتوبر، وصوت العمال، والثوري) توجد الأدلة والوثائق على حالة الأوضاع العامة في الجنوب عشية الوحدة.. فكما قلنا خفت القبضة الفولاذية للدولة، وبدأت الصحافة المحلية تنشر شكاوى المواطنين من ممارسات أجهزة الدولة، ومعاناتهم من سياستها، والمشاكل التي يعانون منها في حياتهم اليومية وفي مختلف المجالات. ونظن أن ما نشر في تلك السنوات واحتفظت به صفحات الصحف هو أفضل مؤشر متوفر -باستثناء الشهادات الفردية للمواطنين- على حقيقة الأوضاع السيئة في الدولة التي كان الناس يظنونها خالية من الفوضى، والفساد، والمحسوبية، واضطهاد المواطن.. إلخ ما يريدوننا الآن أن نظن أنه لم يكن معروفا في الجنوب حتى جاء «الشمال والشماليون» بكل سيئاتهم ففرضوه على الجنوبيين والجنوب!

قطعا يصعب نشر كل ما جاء في تلك الصحف.. ونؤمن أن الحديث عنها لم يكن لازما لولا أن البعض يتعمد تزييف وعي الناس، وتزييف الحقائق لتحقيق أغراض سياسية صغيرة، وخدمة لمشاريع سياسية متخلفة، وخدمة لزعامات أكل الدهر عليها وشرب.

دورنا هنا سيكون فقط إيراد نماذج عن الحالة السيئة التي كان الجنوب قد وصل إليها عشية الوحدة.. وهي نماذج مختارة عشوائيا تكفي للتذكير فقط.. فما زال الذين عاشوا تلك السنوات وعانوا منها يتذكرون ما هو أسوأ منها وأشد وأنكر.. وإن كانت المشاكل الحالية غلبت على ذكريات الماضي كما هو معهود في الطبيعة الإنسانية التي تعيش حاضرها لحظة بلحظة وتنسى معاناة الماضي.

زر الذهاب إلى الأعلى