منذ أن دخلت هذه المهنة، لاحظت أن العاملين فيها لا يتعاطون إلا في القضايا الكبرى منذ اللحظة الأولى. والقضايا الكبرى كثيرة في العالم ولذا لا يكتب أحد عن قضايانا الصغيرة التي بلا أهمية، كالماء والخبز والعمل، سوى الأجانب. ومقال توماس فريدمان، أشهر معلقي أميركا اليوم، أمس الجمعة، كان عن المياه في اليمن. أو بالأحرى عن أن اليمن دولة بلا مياه.
منذ ثلث قرن على الأقل ونحن (أي أنا أيضا) نكتب عن علي عبد الله صالح وعبد الله الأحمر وعلي سالم البيض، وهذا توماس فريدمان يركب طائرة هليكوبتر، غير محددة النسب القبلي، مع عبد الرحمن الإرياني، ليذهب إلى تعز من أجل الكتابة عن مشكلة أو مأساة أو محنة المياه.
يجول فريدمان حول العالم ليكتب عن أشياء أهم بكثير من السياسة وتكرارها وعبثها ورداءتها وأثرها المدمر على الشعوب والأمم. يبحث عن عالم في الهند أو مشروع ري في إندونيسيا أو ظاهرة تنمية جديدة في أفريقيا. ويترك لنا أن نقسم العالم ونعبئ الجيوش ونحدد مصائر النزاعات.
حتى من يكتب منا عن يوميات حياتية، يكتب بأسلوب الرأي والهجوم والغضب والشكوى الخالية من أي بحث أو إضافة أو سؤال طرح على اختصاصي. وما من زميل يعطي نفسه - ومهنته - فرصة التدرب أو الامتحان أو التعلم. فهو كاتب سياسي منذ اليوم الأول، أو أول من أمس. ولا من سبق ولا من لحق. وأهل هذه المهنة يمضون العمر في نقد الديكتاتورية ويمارسون أسوأ أنواعها. فهي مهنة عمادها المعرفة ثم المعرفة ثم المعرفة والديكتاتورية تفاقم الجهل واستبداده.
كم ساهمت الصحافة العربية في خدمة الديكتاتور عندما تعامت تماما عن قضايا الناس. الديكتاتور لم يقصر فقط في الحريات بل في التنمية ولم يبدع إلا في فنون الفساد. ألهانا معمر القذافي جميعا بالقضايا الكبرى وممالك أفريقيا لكي يغطي أكبر عملية فساد في التاريخ ويحجب الرزق والتنمية والحقوق عن شعب. يعلمنا الأجانب أن مقياس الإنجاز ليس ابتداع الألفاظ بل مشاريع التنمية والتطوير والكفاية. وبعد 5 سنوات لن يكون في اليمن نفط ولا مياه. وسوف يظل الإنجاز الوحيد المباني الجميلة التي بقيت من العصور الغابرة. أما العصر الحالي فغبار سياسي ولا مياه تخفف من هبوبه الدائم.