آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

صورة

في جنح التذكر، في ساعات الليل الأخيرة تمتزج أمام عيني صور المدن ‏الباكية، تتداخل صور الموجودات بفعل دمعة معلقة بين أهدابي في حجم كل ‏بحار الأرض، تجعل المرائي في عيني متموجة تنعكس على مرآة نفس ‏تتساقط كل يوم وتتناثر على شاشات الفضائيات ونشرات الأخبار. قالت لي ‏راعية حكيمة ذات وجع: أنتم جيل تعس..ضيع أجدادكم غرناطة، وضيع ‏آباؤكم القدس، وضيعتم أنتم بغداد ودمشق..‏
وما تزال المرايا داخلي تتشظى والنتيجة ما لا يحصى من صور محطمة ‏على شاشة الروح.‏

قبة الصخرة تسري ليلاً لتنتصب على ضريح صلاح الدين وبجوارها نخلة ‏يتيمة من بقايا نخل جَلبهُ عبدالرحمن الداخل ذات حلم من دمشق إلى ‏الأندلس.‏

هنا شظايا إطار لصورة ملجأ العامرية، وهناك قصاصة من صورة شهيد ‏يبدو أنها كانت معلقة في منزل لم يتمكن أهله من إخلائه قبل أن تدهكه ‏الجرافات الإسرائيلية على رؤوسهم، وهاهي صورة حمزة الخطيب تدخل ‏المشهد مكتنزة بدلالاتها المرعبة، لتلتحم بصورة محمد الدرة في المشهد الذي ‏انضفرت ألوانه وأصواته في لحن جنائزي رهيب.‏

في وسط الصورة تتموضع بقايا عظام بشرية، وعلى أطرافها نقطة من ‏الأرجواني الفاقع، وفي زاوية منها عجوز تحتضن بقايا إطار، وتلطم روحها ‏وتشق قلبها في تعرية واضحة لظلم كوني ليس له حدود. ‏

وتمضي الصور أمام عيني لا رابط بينها سوى سلك دقيق من الدمع، صُلبت ‏عليه صور لبغداد والتتار يلقون عليها قنابلهم العنقودية، وفي الطرف القصي ‏من إطار الصورة يبدو ابن العلقمي واضعاً إكليلاً من الزهور على ضريح ‏هولاكو.‏

وما تزال الصور تتو إلى والفن يبتكر أكثر أنواع الصور وحشية وفانتازيا. ما ‏تزال الصور تتلاحق في منطقة تلاقي-أو لنقل تصادم-الحلم والواقع، الغرب ‏والشرق، المعقول واللامعقول، حيث يغدو كل شيء ضرباً من الهذيان، ‏ويغيب العقل ولا تبقى إلا لحظات من الصمت الرهيب، تُعرض فيها صور ‏مدننا واحدة تلو الأخرى على شاشة أسطورية تمتد من جاكرتا إلى الدار ‏البيضاء. وهاهي دمشق آخر المدن المنضمة إلى مشهد الصور، تقتحم المشهد ‏مضرجة بأحلام صبايا الشام موشحة بمنارات الجامع الأموي المنكسة، حزناً ‏على ابن الوليد الذي وصلت النار إلى أطراف أقدامه في حمص ، وسيف ‏الدولة الذي عاد إلى حلب منكسراً من غزو الروم.‏

بالأمس كانت إذاعة صوت العرب حلماً لذيذاً، ما لبثنا أن صحونا من لذة ‏نغماته على صرخات قادمة من الأعماق الموحشة على الشاشة الأسطورية ‏الممتدة من الماء إلى الماء. ونحن بين الإذاعة والشاشة نتشظى تماماً كإطار ‏الصورة التي دهكتها الجرافات الإسرائيلية، نحن إلى صوت العرب-حلماً- ‏وتفاجئنا قناة الجزيرة واقعاً، وينضفر الصوت والصورة ليمنحا المشهد بعداً ‏غرائبياً، وملمحاً فجائعياً يضاف إلى زاوية في الإطار تبدو فيها نساء ‏مجللات بالسواد يبكين حسيناً غائراً في الذاكرة وينسين عراقاً مصلوباً على ‏شاشات التلفزة، وجرحاً سوريا نازفاً في ساحاة الأمويين.‏

وتأتي عناوين نشرات الأخبار لتضيف إلى الصورة أبعاداً أخرى:‏
مقتل وجرح المئات في تفجير انتحاري في بغداد.‏
مقتل وجرح العشرات في تفجير سيارة مفخخة في كابل.‏
مئات القتلى في هجمات متبادلة بين للجيش السوري والجيش الحر
وبالإضافة إلى عناوين الأخبار تضيف شرائط الفيديو القادمة من تحت ‏الأرض أبعاداً أخرى للصورة، حيث يظهر شكل من أشكال اللامعقول لم ‏نشهده من قبل يمزج بين المقاومة واليأس المفتوح على واد رهيب مليء ‏بالأساطير التي لم تدخل بعد بين دفتي الإلياذة.‏

ترى ما معنى هذه الصورة التي نراها في كوابيسنا وتبثها كل مساء ‏الفضائيات المعنية. من يجرؤ على الاقتراب منها وفك رموزها، وكيف يمكن ‏لأيٍ من مدارس الفن أن تستوعبها وهي تتمرد على كل شيء حتى على ‏الإطار المهشم الذي يتناسل صوراً وفجائع وولطميات.‏
لقد تجاوزت الصورة كل الخطوط الحمراء، وقفزت على كل قواعد اللون ‏واقتربت من مرقد الإمام الذي اكتفى زواره بلطم الأراواح وشق القلوب ثم ‏عادوا إلى بيوتهم بعد أن أدوا ما عليهم من شعائر التأبين.‏

نقترب من الصورة أكثر لنرى فيها الرئيس بوش الابن قابعاً في زاوية من ‏مكتبه البيضاوي لابساً مسوح الرهبان يقرأ الإنجيل بعينين إحداهما تبكي من ‏خشية الله والأخرى تقطر حقداً على ذراعي على عباس طفل العاشرة الذي ‏جاء المحرر العظيم ليحرره من يديه كي يغدو جسداً طليقاً بلا أطراف تماماً ‏كما فعل بآلاف الأرواح التي حررها من أجسادها.‏

صورة عجيبة يبدو فيها جورج بوش يتلو الإنجيل، وأسامة بن لادن يتلو ‏القرآن ورأس صدام حسين يتأرجح في بغداد ورأس الحسين يتدحرج في ‏كربلاء وأطفال الفلوجة يتناسلون سرطانات مرعبة، وجسد العراق ينهشه ‏المغول ، وسوريا يتسابق عليها كسرى وقيصر على مرأى من ربيعة ‏ومضر.‏

وهاهي الصورة تكمل تناقضاتها بعد أن خرجت من جانب فيها موجة بشرية ‏في تظاهرة حاشدة رافعة قميص عثمان في مقابل أخرى حاملة دم الحسين، ‏وبين الموجتين يقف الأعور الدجال منددا بحالة الاحتقان الطائفي بين ‏المسلمين...‏
الصورة إذن جاهزة للبث، والفضائيات تتحفز، ولزم التنويه إلى أنه تم حذف ‏بعض أجزاء الشريط المسجل حفاظاً على مشاعر الأعزاء المشاهدين.‏

زر الذهاب إلى الأعلى