يشكل نظام تقسيم العمل الوطني مفهوماً معاصراً للدخول منه إلى فهم طبيعة النظام الاجتماعي للحميريين باعتبار نظام تقسيم العمل موجود تاريخياً في كل العصور والمجتمعات القديمة والجديدة.
إن نظام تقسيم العمل هو نظام توزيع مصادر الدخل الفردي حسب مهنة كل فرد في المجتمع، وبتعريف شعبي هو نظام مصادر الرزق بأن يكون لكل فرد مصدر رزق في شكل عمل اقتصادي معروف، فيتوزع أفراد المجتمع مختلف أشكال العمل الاقتصادي العام.
إن الزراعة هي القطاع الاقتصادي الرئيسي في الواقع اليمني، وكان هناك في العصر الحميري القطاع الصناعي والقطاع التجاري، ويأتيان في الدرجة الثانية بعد القطاع الزراعي، ووظيفة القطاع التجاري كانت تسويق منتجات القطاع الصناعي، فدولة حمير كانت تجارية على أساس أنها كانت صناعية، ونفهم من شرح النقطة المتعلقة بالقطاع الصناعي التجاري حجم قوة العمل المشتغلة فيها في إطار الحجم الكلي لقوة العمل الوطنية، وذلك لتثبيت حقيقة أن القطاع التجاري - الصناعي يحتل المرتبة الثانية في نظام تقسيم العمل الوطني آنذاك.
فقد كانت القيمة العليا للمشغولات الصناعية - التجارية تتمثل في استخراج وتصنيع وتشكيل وتجارة الذهب، فمن المعروف تاريخياً أن جزءاً من ثراء اليمن القديم بدايةً من عهد كرب ال وتر تشير حوله المصادر التاريخية إلى أن استخراج الذهب لعب دوراً في مشروعات تطوير الدولة الوطنية لضمان أفضل درجات التمثيل للمصلحة الوطنية، وتثبيت أمن واستقرار الوجود الاجتماعي الوطني العام، بعدما أصبحت لدى الملوك سيولة مادية من عائدات بيع الذهب اليمني بكميات تجارية كبيرة في الخارج.
وتأتي في المرتبة الثانية عملية استخراج وصناعة وتشكيل وتجارة الفضة بكميات تجارية، وكان مسموحاً لليمنيين اقتناء الفضة للزينة، نظراً لوفرتها بكميات أكبر من الذهب، لكن قيمتها المالية أقل من الذهب، فكان يتم تصدير الذهب كله إلى الخارج مع احتفاظ الدولة بمخزون احتياطي منه للطوارئ، أما الحديد فيأتي في المرتبة الثالثة، وكان يستخرج بكميات كبيرة على الشكل القديم للصناعة الاستخراجية والتحويلية، كانت تدخل فيه صناعة المحاريث الزراعية والفؤوس والمناشير لتقطيع الأشجار والأخشاب والسيوف والرماح ومختلف صنوف الأسلحة الحديدية التقليدية القديمة، ومنها «نصال» خناجر الجنابي المستعملة بأعداد مليونية بين قدامى اليمنيين كحزام للخصر، وكانت الجنبية تقليداً منتشراً أيضاً في المناطق العربية حول اليمن، وقد دخلت الجنبية نتيجة لذلك في عداد ما سبق شرحه عن الصناعة الحديدية الحميرية وآليتها التجارية الوطنية، علماً أن هناك مَنْ كانوا يُعرفون برجال البحر من البحارين الحميريين، وهم طواقم السفن التجارية وحماتها من المحاربين المرافقين لها في الذهاب والإياب، وأما طبيعة المحطات اليمنية في مناطق الممرات التجارية فكانت فيها مجموعات يمنية مرابطة بشكل دائم لخدمة السفن التجارية اليمنية أثناء توقفها فيها، وأيضاً للتدخل السريع لحمايتها عند الاقتضاء.
كانت هناك أيضاً الصناعات الجلدية، ومنها الأحذية وأيضاً المنسوجات القطنية وتجارة اللبان والبخور، أما المنتوجات الغذائية الزراعية فكان يتم تصدير الحبوب والزبيب على رأس المنتوجات الغذائية التي أمكن تجفيفها وحفظها في ظروف ذلك العصر، وكانت صناعة النبيذ الحميري مشهورة نظراً لجودة العنب اليمني.
نظام غير اقطاعي
نفهم من أصول ملكية الأرض الزراعية للفلاحين القرويين اليمنيين أنها متوارثة من أجدادهم الحميريين بنسبة كبيرة، وبالذات في مناطق الهضبة الحميرية التي يخضع نظام توزيع الأرض فيها لشروط تكوين الأرض الزراعية على شكل وديان تتخلل الجبال وعلى شكل مدرجات زراعية يعود مفهوم ملكيتها إلى طريقة بنائها الجماعية، فيتقاسمها مَنْ قاموا ببنائها ضمن مفهوم تعاوني فيما بينهم، فيكاد لا يخلو فرد ولا عائلة بالقرية من حق امتلاك قطعة داخل نظام المدرجات الزراعية، وكذلك فإن نظام المواريث أسهم في تفتيت أسس الإقطاع الزراعي.
الجُند
عادةً ما يشار في النظم الاجتماعية إلى طبقة الجند، وبالنسبة للحميريين فإن التكوينات الاجتماعية التقليدية «القبائل الحميرية» كانت هي الجيش في وقت الحروب الوطنية، وتحتفظ الدولة بقوات حماية رسمية نظامية وقوات شرطة داخل المدن، وبهذا الشكل لم تكن توجد ميزانية عسكرية كبيرة، فكانت الأموال تذهب لبناء السدود وشق الطرق وبناء المدرجات وإنشاء القرى ذات النظام الهندسي على شكل نظام القرية اليمنية المتطور في ذلك الوقت لاحتوائه على مفهوم الكتل الاستيطانية بأحجام وأشكال متساوية أو متقاربة على مستوى كل سكان القرية.
العيلومية الدينية
لاحظنا العيلومات الحميريين «رجال الدين اليهود اليمنيين» يقومون بأعمال الختان وذباحة الماشية، وهذا يلقي بعض الضوء على مفهوم الدرجات الواقعة أسفل السلّم الاجتماعي بأنها في العصر الحميري كانت على غير ما هي عليه بعد ذلك، فما هو في أسفل السلّم الاجتماعي المهني لا يبدو معيباً طالما العيلوم الديني هو مَنْ يختن المولود، بينما بعد زمن الحميريين لا يقوم بهذه المهمة سوى المزيّن ذو المرتبة الأقل في السلّم الاجتماعي.
إن العيلوم ذو قيمة كبيرة وليس في أسفل السلّم الاجتماعي، بل على العكس هو في أعلاه، فيبدو بهذا الزمن الحميري مختلفاً كثيراً عما بعده، والعيلومات كانت وظيفتهم متعلقة بالإدارة الدينية لأماكن العبادة وشؤون الطقس الديني، وهم غير الأحبار المرجعيين في علوم الدين، كما أن العيلوميين كانوا يكتبون عقود الزواج.
فئة العمل الخامسة
لقد كان الدفافون «مَنْ يدقّون طبول البرع»، وهي رقصة الحرب الحميرية، مستظرفين ومقربين من الأقيال، ولا أعتقد أنهم كانوا على مفهومهم السلبي بعد العصر الحميري «المزاينة»، وفي الحقيقة المزيّن بالحميرية «فنان تزيين» أو فنان ديكور، وهذه الفئة في أيام حمير كانت موجودة في إطار اشتغالها بالخدمة مثل الطباخين ومَنْ يقدّمون الطعام وَمَنْ يصنعون الفرح الجماعي في الأعراس والمناسبات، وأعتقد أنه لم يكن ثمة نقصان في قيمتهم أيام الحميريين، بدليل حماسهم ذاك وولائهم الشديد لقومهم الحميريين، وإنما هي مهنة يشبه فيها الهاوي للمزمار بمقياس تلك الأيام الهاوي للفن بالمفهوم المعاصر، وكذلك أشبه بمن يختارون مهنة من طبيعتها الخدمة المباشرة للناس، كالحلاقة أو المطعم مثلاً، وكذلك مهنة تزيين العرائس توجد مثلها المشتغلات بالماكياج... إلخ، وأعتقد أنها أداءات أساسها مهني، إذ أن العصر الحميري هو الوحيد بين مختلف عصور التاريخ البشري العام لم يعرف الرق، وهذه الطبيعة فيه لا بد أن تنسحب على عدم وجود كل ما ينتقص من قيمة الفرد في المجتمع، وعموماً اليمن كانت تطورت اجتماعياً على أساس مهني وأصبحت الألقاب العائلية تتبع المهنة، مثل بيت الحداد وبيت السقاف والخياط والنجار، وطالما العيلوم الديني بنفسه كان يختن المولود فإنه لم يكن ثمة احتقار للمهن بالشكل الذي أصبح الوضع عليه بعد سقوط الدولة الحميرية.