اليمنيون يحتقرون الفنون ومن ضمنها (الغناء)، فالفنان أو (المغنِّي) عندهم ليس إلا شكلاً جديداً لل(مزيِّن)، وقد استطاع الآنسي والسمة والحارثي وأيوب وأمثالهم أن يغيِّروا هذه الصورة، فأصبح الفنان، بفضل إبداعهم ورقيّهم وترفُّعهم، شخصاً محترماً يُشار إليه بالبنان.
ولم يكد هؤلاء الفنانون يرسِّخون أرضية ومبدأ احترام الفن والفنانين حتى جاء مِن بعدهم فنانون مقلِّدون يقتاتون على جهود سابقيهم، ويكرِّرون ألحانهم ذاتها، إنهم (الجدد) فقراء فنياً، لا يملكون إلا أصوات تصلح للتقليد مادامت تشبه أصوات نعرفها. وذلك ليس ما نعيبه فيهم رغم سلبيته، لكن ما نعيبه حقاً إساءتهم القاتلة إلى الفن والفنانين والمتمثلة في إعادتهم الفن إلى خانة الاحتقار الاجتماعي (المُزَيِّن)، فقد ضحُّوا بهيبة الفن ورسالته ومكانته وأصبحوا يتنقلون (يومياً أو شبه يومي) بآلاتهم الموسيقية البائسة من قاعة أعراس إلى أخرى، ويمسحون في ذهابهم ورواحهم المكانة اللائقة التي كان قد رفعهم إليها الآنسي وأيوب وزملاؤهم، ويمزِّقون الصورة الراقية التي رسموها.
هذا الكلام لا ينطبق على المنشدين، رغم أنهم يتنافسون مع الفنانين على نفس المجال، ويقتسمون نفس (الزبائن والقاعات) ويسلكون نفس السلوك التجاري والتداولي للفن. ذلك لأن المنشد ليس له رصيد تاريخي يخسره مثل الفنان، فهو منشد في كل الأحوال، ليس له مكانة فنية يمكن أن يفقدها، أو مكانة اجتماعية معرّضة للسقوط. عمل المنشد في الأصل يتحدد في إلقاء أناشيد (دينية، صوفية، مدائح نبوية)، ومع دخول المنشدين الشباب أدخلت بعض التعديلات والتطوير مثل إفراغ الأناشيد الدينية في قالب من الألحان المعروفة (يمنية وعربية قديمة وحديثة) بالاعتماد أساساً على الإمكانيات الصوتية للمنشد مع الاستعانة ببعض الآلات الإيقاعية، ليبدو الأداء أقرب إلى الإنشاد الديني منه إلى الغناء.
لقد أضاف المنشد إلى مهنته التي لم تكن تدرُّ دخلاً مادياً بعض التعديلات الضرورية (التطوير) لكي يصبح قادراً على المنافسة، فهو، خلافاً للمغني، لم يسئ إلى مهنته ولم يحط من قدر أصحابها، بل العكس هو الصحيح، إذ أصبح المنشد فناناً (ملتزماً) يدخل إلى عالم الغناء ولا يستطيع المغني دخول عالمه. والمنشد بإمكانه أن يستوعب مختلف الألحان التراثية ويوظِّف مختلف النصوص داخل النشيد انطلاقاً من المقولة الصوفية الشهيرة (لكم المغنى ولي المعنى)، والإرث الصوفي يوفِّر هذا المناخ، فالموشحات اليمنية لا تخلو من عبارات الغزل، فعلى سبيل المثال مفردات قصائد عبدالرحيم البرعي لا تختلف عن مفردات الغزل العربي بشقيه الصريح والعذري.
وللمنشدين امتياز آخر فهم يحتكرون فئات معيّنة من الزبائن، فبعض الجهات التي تتحرج من إقامة مناسبات احتفالية يتخللها الغناء تجد في (المنشدين الجدد) مخرجاً سليماً، فهي تستطيع أن تقيم مناسبة غنائية تحت مسمى (الإنشاد ) وتحافظ في نفس الوقت على مكانتها كجهة أو فئة تنطلق منطلقاً (دينياً ملتزماً)، فترضي جمهورها وتحافظ على مكانتها.
وإذا كان الفنانون (المغنون) الجدد قد أعادوا الفن إلى مكانة اجتماعية مُحْتَقَرة (المُزَيِّن) فإن بعض المذيعين ومقدمي البرامج ومقدمي الاحتفالات قد جعلوا عمل المذيع شبيه بمهنة ودور (الدوشان). لقد شعرتُ بمرارة وأنا أتابع مقدِّم حفل تخرج في إحدى الجامعات، فلم يكن إلا (دوشان) يكيل المديح للمسئولين عن تلك الجامعة، وينظم القصائد في رئيسها، ولعل تلك القصائد تصاحبه في كل حفل يقدمه، لا يلزمه إلا حشر اسم المسؤول الجديد في أي مكان دون أن يغيِّر ما يلزم من تغيير. إن هذا السلوك من المذيعين ومقدمي الاحتفالات قد يصبح ظاهرة، خاصةً إذا لاقت تلك النماذج تشجيعاً وازداد الطلب عليها.
إن مقدِّم أي حفل، ما هو إلا مقدِّم، يقتصر دوره على الربط بين الفقرات، وتقديمها دون الإطالة والشرح والتوضيح، ودون استعراض الملكة الشعرية للمقدِّم وتسميع ما يحفظه من قصائد بعد تحويرها وإدخال الأسماء الجديدة عليها، لقد أصبحت هذه المهمة في يد هؤلاء مكاناً للتعبير عن الذات، عن فقرها المادي والأخلاقي، وعن (عُقَد النقص) التي تعانيها. أصبح المذيع المقدِّم متسوِّلا أو (دوشان) بكل معنى الكلمة، فهو يستخدم كل العبارات التي يستخدمها (الدوشان) ويوظِّف كل الأساليب التي يلجأ إليها المتسوِّلّ المحترف، مثل مقدِّم حفل تلك الجامعة الذي لم يكن ينقصه إلا أن يقول (أعطني مما أعطاك الله ) و(يا أكرم الكرماء ويا أشجع الشجعان).