آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

خديعة الوليّ الحِمار!!‏

في المثل المصري: " دَحْنا دفنينُه سَوا" حكاية جد مضحكة، لكن دلالتها أكبر من أن يحيط بها سِفْر أو ‏يسبر غورها لسانُ فصيح، هذه الحكاية مفادها: أن رجلين كانا في قرية ينعم أهلها بالأمن والإيمان، وكانا قد ‏غالبهما الفقر وشظف العيش، ففكرا في أمر يجلب لهما المال الذي ينقذهما من ذلك البؤس، فلم يهتديا إلى ‏ذلك سبيلا.‏

ومرت الأيام والسنون، وتلك الغاية لا تبرح خلَديهما؛ وبينما هما كذلك، إذ لقيا حمارا ميتا كادت أشلاؤه ‏ورفاته أن تلوث القرية بالوباء والرائحة المنتنة، فتعاونا على نبش حفرة عميقة وألقياه فيها، ثم واراه ‏بالتراب، هناك، في موضع قصي عن القرية، عند أعلى مرتفع فيها، ولم يكن بحسبانهما أن صنيعهما هذا ‏سيكون مؤجل الفائدة.‏

بعد أعوام مضت، نمت على ضريح ذلك الحمار شجرة دائمة الاخضرار والإيناع، وتأسر القلوب ‏والأبصار، فلما مرّا بإزائها ذات يوم، عنت لأحدهما فكرة مذهلة ليس يصنعها إلا شيطان مارد، وهو أن يصيّرا ‏هذا القبر مزارا لكل عليل يبتغي الشفاء من أسقامه، ثم مضيا وقد قررا تعهد تلك الشجرة بالماء والرعاية ‏والحماية ما استطاعا جهدا ومنافحة.‏

وكانت الخطوة التالية لذلك، أن أشاعا في تلك القرية المؤمنة أن هذه الشجرة نبتت على ضريح وليّ ‏صالح له كراماته وخوارقه العجيبة؛ فاندفع الناس في غفلة إيمان للتبرك بها، وقصدوها من كل حدب وصوب، ‏وكان لحسن حظ هذين الرجلين أن الشفاء حليف كل مرتاد لها، بقدرة الله تعالى، لا بقدرة ذلك ‏الولي"الحمار".‏

المهم -أيها القراء الفضلاء- أنه لفرط حب الناس في ذلك المقام أو المزار، ولانتعاش حياة أهل القرية؛ ‏لم يكن أحدٌ ليبخل بالمال والسمن والعسل والحبوب على هذين الرجلين القائمين على هذا المزار الطاهر، ‏لاسيما وقد تمسحا بمسوح الرهبان، وابتدعا من المناقب والمآثر، ومن الأدعية والأشعار وعبارات التبجيل ‏والإجلال ما يطري على صاحب المقام وعلى بركاته الخارقة‎!!‎

وهكذا هي الحياة لا يستقيم ولا يستديم نعيمها لمخلوق، حتى وإن دلّس أو خدع أو أغرى واشترى ‏النفوس الوضيعة، فقد اختلف الرجلان على تقاسم ريع المزار رغم اتفاقهما على صفته مسبقا، إذا كانا قد ‏اتفقا على تقسيمه أثلاثا؛ ثلث لخدمة المزار، ولهما الثلثان الآخران، فكان أحد الرجلين- وهو صاحب الفكرة ‏وأوسعهما حيلة- يستأثر بحصة المزار من المال، الأمر الذي أغاظ صاحبه؛ فطلب الأخير المقاسمة في ذلك ‏الثلث، فلما سمع منه ذلك الخبيث هذا المطلب، قال له: أنت بذلك تغضب مولانا -رحمة الله عليه- وتجلب على ‏نفسك المهالك والسخط؛ غير أن الرجل لم ينطلِ عليه ذلك التدليس أو يحتمل تلك المراوغة، وهو يعلم الحقيقة ‏مثله، فصرخ في وجهه صرخة مدوية هي أشبه بصرخات الحق التي يراد بها باطلا في كل زمان ومكان: " لا ‏‎.. ‎دحنا دفنينه سوا‎"‎‏!!‏

بالنسبة لي، لا أعلم بما آلت إليه هذه الحكاية بعد ذلك؛ هل ائتلف الرجلان أم اختلفا وانفضح أمرهما؟ ‏وإن كنت أرجح الخيار الأخير؛ ليقيني المطلق أن ما يؤسس على باطل فهو باطل، وأن حبال الكذب قصيرة، ‏ولو التفّ حول الفكرة الزائفة جحافل المنافقين واللُّهاث وراء خسيس المغانم، وضاربو الدفوف، وحاملو ‏المباخر، وأنصاف الرجال من ذوي البطون المثقوبة.‏

أتدرون ما الذي يشغلني ويشغل الكثير ممن نتقاسم معهم وجع ما يجري؟ إن ما يشغلنا هو كيف لنا أن ‏نمد أيدينا إلى أولئك القوم في تلك القرية المنكوبة بالجهالة والغي، وما الذي بوسعنا فعله كي نمنع الوافدين ‏إليها من أن تغتالهم خرافة ذلك المزار، وخبث ونفاق ذلكم الرجلين ومن معهما من السدنة، حتى لا يصيبنا -‏جميعا- سخط الذي ينظر إلينا من كل نعمة تجري في جوارحنا.‏

زر الذهاب إلى الأعلى