لماذا قامت الثورة في سوريا؟ من الناس من يقول إنها ناتجة عن تراكمات امتدت لعدة عقود، وشجعها على التفجر الحراك الثوري ونتائجه في تونس ومصر وليبيا واليمن. ومن الناس من يقول: بل إن سوء تصرف النظام هو الذي حول المعارضة المتواضعة إلى ثورة عارمة. وقد ظهر منذ البداية الذين مع النظام، والذين ضده، والمتوسطون الذين طالبوه بالإصلاح. أما الذين كانوا معه علنا منذ البداية فهم الروس والإيرانيون، وإن اختلط كلامهما على قلة بذكر الإصلاح مع التأكيد أن النظام قام بأكثر مما طلب منه! وأما الذين ضده فما كانوا كثيرين، وأقصد بين الدول. بل كان مؤيدو الثورة جميعا تقريبا من الشعوب العربية وبعض المثقفين. وظلت الأنظمة المعروفة بالعلاقات الطيبة أو المقبولة مع النظام مثل قطر وتركيا والسعودية تتصل بالرئيس الأسد، وتسأله عن الأوضاع، وترجوه وترسل إليه وفودا من أجل مطالبته بالإسراع في الإصلاح الاقتصادي والسياسي، ومن ضمن ذلك إسقاط نظام الطوارئ، وتغيير الدستور، ورفع قبضة الأمن والمخابرات عن الناس، والسماح بالتظاهر السلمي. ويمكن القول إنه حتى نهاية عام 2011؛ فإن الحال ظل على هذا المنوال. وما بدأت المواقف بالتمايز والافتراق إلا منذ مطلع عام 2012، وكان عدد القتلى قد تجاوز الخمسة آلاف. وقتها قاطع كثير من العرب النظام السوري، ولجأوا إلى الآليات المعروفة بالجامعة العربية. ووقتها بدأ الأميركيون والبريطانيون والفرنسيون والأتراك يطالبون الأسد بالتنحي، في حين كف الروس نهائيا عن مطالبة الأسد بالإصلاح، وقالوا إن الشعب السوري يؤيد الأسد، وإن الثائرين متطرفون، وإن التدخل العسكري الخارجي سيشعل حربا طويلة. أما الإيرانيون فقالوا عبر زياراتهم للأسد وتصريحاتهم وخطابات السيد نصر الله، إنهم مع الأسد لأن نظامه نظام مقاومة وممانعة، وتلاهم المالكي الذي كان أول من تحدث عن تفاوض وحل سياسي أو تحدث حرب أهلية!
إن الذي يبدو الآن وبعد نحو السنتين والثلاثة أشهر على الثورة، أن الروس والإيرانيين ما بدأوا بالخوف على النظام إلا في الربع الأول من عام 2012. ووقتها أخذ الروس على عاتقهم تعطيل القرارات في مجلس الأمن، وإمداد النظام بالسلاح الثقيل والخبراء؛ في حين تدفقت الأموال من إيران ومن العراق بصيغ مختلفة من هبات وقروض وتسهيلات، مع كميات هائلة من السلاح المتوسط والثقيل، وعدة مئات من الخبراء صاروا الآن ألوفا! فمنذ أواسط عام 2012 وإلى اليوم يزداد وجود الإيرانيين على الأرض السورية، لكنهم يتجنبون حتى الآن إرسال عساكر للقتال على الأرض من فيلق القدس وغيره من فيالق الحرس الثوري. وقد أنشأوا في أكتوبر (تشرين الأول) 2012 قيادة مستقلة في سوريا أرادوا أن يجمعوا لها ستين ألفا من العلويين وشيعة العرب والعالم، ثم تواضع هذا العدد إلى ما بين ثلاثين وأربعين ألفا، وصل منهم حتى الآن خمسة وعشرون ألفا أكثرهم من حزب الله ومن العراق.
ماذا يريد الإيرانيون في سوريا؟ لقد صدرت عن خامنئي في عام 2012 فتويان، الأولى يذكر فيها أن على المسلمين دعم النظام في سوريا؛ لأن الثائرين عليه تحركهم أميركا وإسرائيل، وتمدهم بالمال والسلاح! والثانية يذكر فيها أخيرا أن التكفيريين (السُنة) يهددون بإبادة الشيعة، وهم يتمركزون في سوريا، ولا بد من مكافحتهم قبل فوات الأوان! وفي ذلك الوقت كان خطاب نصر الله إلى كوادره ينتقل من حماية اللبنانيين (الشيعة) في سوريا إلى حماية المقدسات، ومصارعة التكفيريين، ويأتي هدف دعم النظام تاليا. وإذا اعتبرنا بالفعل أن دخولهم القتالي في النزاع السوري، ثم في النزاع المذهبي، هو في جزء منه تنسيق مع الروس، ودغدغة لأميركا وإسرائيل، وهاتان لا هم لهما غير «القاعدة» والإرهابيين؛ فهل هذان الأمران كافيان لهذا الاستقتال؟ لا يبدو ذلك كافيا إلا في ضوء أربعة أمور: استتباب الأمر للإيرانيين في الدول العربية الثلاث، العراق، وسوريا، ولبنان، منذ عامي 2008 و2009، والطمع في الاستمرار. ومحاولة «استنباط» بدائل في حال سقوط النظام أو فوزه، أي أن يكونوا موجودين بكثافة على الأرض. ومنافسة تركيا ومصارعة العرب على هذه المنطقة وعلى حدودهم. ومساومة الولايات المتحدة وإسرائيل على الأمن والعسكر والمسائل الأخرى خارج حدود إيران. ومن الطريف أن هذا العامل الطائفي أو المذهبي الذي بدا أخيرا بصورة فاقعة كان له جانبان إذا صح التعبير: الجانب الأول تكفير السُنة مما يسهل قتالهم ويحشد شبان الشيعة باعتبار مقدساتهم مهددة. والجانب الثاني: التقرب من العلويين دينيا باعتبارهم شيعة. فقد صدرت في لبنان وإيران والعراق خلال عام 2012 عدة كتب عن إيمان العلويين وولائهم لأهل البيت. كما صدرت في الوقت نفسه دراسات عن تعصب السُنة وحاجة الأقليات الإثنية والدينية لـ«التسامح» الإيراني! وإذا قال أحد إن الشيعة في العراق أخذوا السلطة هناك لأنهم أكثرية؛ ومن حق سُنة سوريا بالتالي أخذ السلطة في بلادهم لأنهم كثرة ساحقة؛ فإن صحيفة «كيهان» تذكر، وكذلك ولي نصر في «صحوة الشيعة»، أن الكثرة السنية مبالغ فيها، وأنهم لا يزيدون في سوريا على الـ55 في المائة، بالإضافة إلى أن الشيعة في لبنان هم نصف السكان، وفي العراق أكثر من 70 في المائة، وعلى أي حال فإن العبرة ليست بالكثرة، بل بالتأهل، والسُنة ليسوا مؤهلين لتولي السلطة في سوريا أو في غيرها لاستيلاء المتشددين عليهم، ولأنهم لا يستطيعون تأمين قبول الأقليات وعيشها، ولأنهم عجزوا عن التصدي للقضايا الكبرى مثل قضية فلسطين! فدعوى العجز وعدم التأهل لدى «المنظّرين» المتكاثرين للراية الإيرانية الشيعية لا يتناول السُنة وحسب، بل يتناول العرب أيضا!
إن خلاصة الأمر بالنسبة لإيران بعد هذه الدعاوى الكثيرة أن من حقها السيطرة على العراق وسوريا ولبنان. وإذا كانت تحاجج بما ذكرناه في المحادثات السرية والمخابراتية؛ فإنها لا تحاججنا بالداخل العربي إلا بالقوة الميليشياوية. وقد قال خامنئي مرارا وكذلك نصر الله: «لقد جربتمونا مرارا وفشلتم، وحذارِ من خوض التجربة مرة أخرى أو تهلكون»!
ماذا فعل العرب لمواجهة هذه الاندفاعة الإيرانية الجديدة؟ في الواقع، ومن دون رثاء للنفس أو شتم لها، هذه هي المرة الأولى التي يحاول فيها العرب فعل شيء لمواجهة المطامح والمطامع الإيرانية. فهم ما فعلوا شيئا عندما استولى الإيرانيون بواسطة الأميركيين على العراق. وما فعلوا شيئا عندما نشروا هم ونظام الأسد الاضطراب والاغتيالات في لبنان وصولا للاستيلاء على حكومته منذ عام 2011، بل إن بعضهم حاول دائما الإقناع بالخضوع لهم. وما فعلوا شيئا حقيقيا من قبل ومن بعد عندما سيطرت إيران على غزة بواسطة حماس منذ عام 2007، ومعها قسم كبير من القضية الفلسطينية!
لقد فتحت الثورة السورية وسط المآسي والآلام والكوارث الناجمة عن حرب الإبادة التي يمارسها النظام وإيران وروسيا، الباب للعرب دولا ومتطوعين لإخراج المشرق العربي من النير الإيراني، ومن الشرذمة الطائفية التي تسللت إلى الخليج واليمن أيضا، وما كان الدعم العربي للثورة السورية كافيا بالطبع، بدليل ما حصل في القصير وغيرها في الأسابيع الأخيرة.
إن المساعي العربية لنصرة الثورة السورية هي مساعٍ دفاعية. وهي في حال نجاحها أو تقدمها لا تفيد السوريين فقط؛ بل تفيد اللبنانيين والعراقيين والفلسطينيين أيضا. وهي تحفظ الاستقرار والمنعة في الخليج وما وراءه. وستكون تلك المساعي، إن نجحت أيضا، ثاني انكسار تعانيه إيران في منطقتنا بعد التحدي الذي صنعته دماء السوريين.