تابعتُ-باهتمام- وقائع الانتخابات الرئاسية الإيرانية الحادية عشرة، وفوز المرشح الإصلاحي حسن روحاني، وكيف تباينت التوقعات حول نهجه السياسي والاقتصادي والعسكري داخل إيران وخارجها، وما إذا كان الرجل صورة كربونية لسلفه ذي التوجه المحافظ المغاير له، أم أن الأمر سيان؛ إذ أن القول الفصل ليس لأي رئيس جمهورية إيراني، بل للمرشد الأعلى للثورة الإيرانية، طبقا للدستور الإيراني وللتراتيبية الواضحة الالتواء التي يصعد من خلالها المقربون من المرشد إلى موقع رئيس الجمهورية.
ما يهم هذه المقالة، هو موقع اليمن في توجه الرئيس روحاني في سنوات رئاسته، وليس هذا التوجس بالأمر المبالغ على نحو ما يجري حسابه مع صعود رئيس جديد للولايات المتحدة الأمريكية؛ لأن إيران كانت-وما تزال- إحدى الدول المحورية الفاعلة في الشرق الأوسط، لاعتبارات معروفة، يأتي ذلك مع ما تعيشه المنطقة العربية - ومنها اليمن- من تغيرات كثيرة في بنية الأنظمة التي حكمت المنطقة لعدة عقود، والتي كان لها ما لها وعليها ما عليها مع الأنظمة الإيرانية المتعاقبة، سواء قبل أو بعد ثورة الخميني عام 1979م.
والحقيقة التي لا يجب تجاهلها، أن إيران تستمد طموحاتها في المنطقة-عموما- من ماضي إرثها التاريخي الذي كانت فيه أحد أهم قطبين عالميين يحكمان هذا العام، ولأدوارها المختلفة والمتعددة في التاريخ الإنساني، وأن هذه الأدوار لم تكن تخلو من أطماع توسعية تتجاوز ما وراء مياه شط العرب ومياه الخليج العربي غربا، وكذا مناطق بحيرة قزوين شمالا، وذلك في مراحل تاريخها القديم والحديث والمعاصر.
كانت الروح الفارسية قبل الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979م، هي ما يخالج نفوس قادة إيران، من القمة إلى القاعدة، وكانت في مراحل تاريخية متأخرة، تمارس دورها التوسعي في غمرة التنافس الخارجي على المنطقة التي يتصارع عليها العثمانيون ودول أوروبا الغربية وروسيا، سواء بدوافع ذاتية محضة تخص إيران وحدها، أو بإيحاء من بعض تلك الدول المتنافسة، وهو ما حقق لها الكثير من المكاسب، أبرزها السيطرة المطلقة على إقليم الأحواز العربي عام 1925م، الذي تمتد أراضيه على طول الشريط الساحلي الشرقي للخليج العربي والامتداد شمالا على جزء من حدود العراق، وكذا احتلالها ثلاث جزر إماراتية هي: طنب الكبرى، وطنب الصغرى، وأبو موسى عام 1971م.
وقد امتزجت الروح الفارسية التوسعية بالروح الدينية (الإسلامية الشيعية) الثائرة التي جاءت بها الثورة الخمينية، فكانت الحرب مع العراق بهذه النكهة، وعبر عن ذلك الملمح الضحايا الكثيرة من الشباب الإيراني الذين دفعت بهم قوة فتاوى الجهاد وإغراءات صكوك الفردوس، الأمر الذي استثار حكام وشعوب الدول العربية التي كان منها اليمن، حيث شاركت بقوام عشرة ألوية مشاة في السنوات الأولى للحرب، وهو ما جعل الأنظمة الإيرانية المتعاقبة تنظر لليمن بعين السخط وتتربص به لترد له ذلك الديْن، وقد استغلت في سبيل ذلك كل الفرص المتاحة على امتداد العقود الثلاثة الماضية رغم حسن النوايا التي تعلنها تجاه اليمن.
لو أردنا التكهن بما يدور في رأس الرئيس الإيراني حسن روحاني حيال ما يجري في اليمن، فإن الأمر لن يكون بمعزل عما يجري في العراق والبحرين وسوريا ولبنان، أو حتى ما يجري في مصر وتركيا، أو ما يخطط له في أراضي السعودية والكويت، كما يجب أن لا ننسى أن نضع في الحسبان اختراق طهران لحركة حماس والحركات الفلسطينية الأخرى؛ وهنا سنجد أننا إزاء ذراع طويلة أو مجموعة أذرع لكائن تاريخي توسعي بأكثر من لون وأكثر من وجه وأكثر من ضمير، اسم هذا الكائن الغريب جمهورية إيران الإسلامية!!
في سنوات ثورة سبتمبر 1962م، كانت إيران واحدة من عدة دول عربية وعالمية، لم يرقها ما جرى من ثورة شعبية في اليمن ضد نظام ملكي (إمامي) متخلف، وكان ذلك التوجه في إطار كبح جماح الثورات العربية التي تؤازرها مصر، بزعامة الرئيس جمال عبد الناصر، فكان الموقف الإيراني داعما ومؤيدا لفلول الملكيين منذ اندلاع الثورة حتى انتهاء الحرب ووقوع المصالحة الوطنية عام 1970م، وقد تمثل ذلك الدعم بالعتاد العسكري والتدريب والدعم المالي والمعنوي.
بطبيعة الحال، فإن التدخل الإيراني في اليمن هذه الأيام، لا يمكن أخذه -بالمجمل- في ذات السياق الذي أبدته في ستينات القرن الماضي؛ لأن إيران اليوم لم تعد بواعث أطماعها -فقط- ما كانت عليه قبل الثورة الخمينية، بل امتد الأمر إلى التوسع في المساحة الدينية الثائرة التي تستدعي وجود نقاط اقتراب من خصومها خارج حدودها الجغرافية، وأياً كان أولئك الخصوم، فإن أي معركة قادمة تستهدف فيها إيران عسكريا؛ ستكون نقاط الاقتراب تلك، رؤوس مواجهةٍ رادعة ضد أولئك الخصوم أو ضد مصالحهم في محيط تواجدها.
كما أن التدخل الإيراني يأخذ طابع التنافس بين قوى دولية وإقليمية في المنطقة وفي اليمن، أبرزها المملكة العربية السعودية، ببعد ديني جيوبوليتكي، ومثلهما الولايات المتحدة وإسرائيل، بل وعلى أكثر من بعد مما ذكر، أما ذريعة مقاومة إسرائيل وتلهف الكثير من العرب والمسلمين للنيل منها جراء الضربات القوية التي تلقتها الأمة العربية والإسلامية منها، فكل ذلك مجرد خداع للسذج ليس إلا، وهو ما جعل هذه الذريعة لدى الكثير-وللأسف- كما لو أنها حقيقة لا يعتريها مثقال ذرة من باطل، وتجاوز هذا الوعي المزيف حد اليقين بأن كل من يقف ضد إيران(المجاهدة) إنما يقف ضد فكرة الجهاد واسترداد الأرض (الإسلامية) المحتلة!!
وإزاء فكرة الجهاد واسترداد الأرض المحتلة من قبل الكيان الصهيوني، ولعن الغرب الكافر الذي ساعد على ولادة هذا الكيان الغاصب؛ نشأت أذرع إيران الطويلة ونقاط اقترابها من خصومها في البحرين والعراق ولبنان واليمن، وغاب عن أذهان العرب-تحديدا- مصير إقليم الأحواز العربية والجزر الإماراتية المحتلة من قبل إيران، وقد لا يستفيق هؤلاء العرب من تخدير السياسة الإيرانية إلا وقد وجدوا أنفسهم داخل حدوة الحصان الإيراني وسطوة قوتها النووية التي بدأت بالتخلق وهي الآن بانتظار الميلاد المدوي على يد الرئيس الجديد(الإصلاحي)الذي ستحاك على يديه خدعة إيران النووية.
وهنا، فمن الصعوبة بمكان أن نتخيل - وفق ما سبق تناوله- أن إيران يمكن أن تكف عن إعمال تدخلاتها في اليمن أو في أي مكان آخر يتواجد فيه حلفاؤها الآن، بطريقة أو بأخرى، لاسيما أن ذلك الكف إنما هو تراجع مصيري سيجعلها عرضة لأن تخسر الكثير من الامتيازات التي تتمتع بها الآن؛ ومن ذلك مشروعها النووي، ولذلك فإن فرضية استمرار التدخل سيظل مستمرا وسيكون بأقوى مما كان، وبما يستقيم ما طموحاتها المختلفة، ولكن بطرق أخرى أكثر براعة توحي بلين الموقف الإيراني، إذ لا يمكن التصور أن أي رئيس جديد لأي دولة يكون من أهدافه تقويض ما شيده أسلافه من الرؤساء، ما لم يكن ذلك مصيري التهديد للدولة التي يتزعمها، وهذا مالا يمكن تصوره في المشهد المتوقعة المخطط لها في أجند الرئيس روحاني .
إن أي توجه سياسي إيراني داخلي أو خارجي له ارتباط بروح الثورة الإيرانية- التي يجب أن يستمر توهج جذوتها، بحسب ما قاله مرشدها الأكبر- أمر مرهون بقرار هذا المرشد وليس بيد رئيس الدولة، الذي يتيح له دستور البلاد ذلك مع أعجوبة البقاء في هذا الموقع مدة حياته!! ولو فرضنا -جدلا- أن الرئيس روحاني يسعى لانتهاج سياسة معتدلة تجاه محيطه العربي؛ فإن مسألة التخلي عن دعمه ومساندته للحركات الشيعية في المنطقة العربية -ومن ذلك جماعة الحوثيين في اليمن- ستكون محل استثناء، أو أن مسالك أخرى مدروسة ستكون كفيلة باستمرار ذلك الدعم.
لقد كشف روحاني في معركته الانتخابية أنه سيمضي على نهج سلفيه الإصلاحيين: رافسنجاني، وخاتمي؛ ولذلك فعلينا أن نتذكر-مع قوله هذا- سيرة الرجلين الرئاسية، ونتذكر من هو المرشد ومن هو صاحب القرار الأول والصارم في إيران، وكيف كانت سنوات الحرب المؤلمة في صعدة التي أغرت جماعة الحوثيين بتجرع مراراتها في انتظار الأماني والأحلام؟!
إنه مع استبعاد توقف إيران عن مؤازرتها للحوثيين؛ فإنه سيكون الخطر أعم مما يتصوره البعض؛ حيث أنها -وهي لا تجد إلا القليل من الصعاب في إيصال الأسلحة والمؤن والأموال إلى جماعة التمرد الحوثية- فإنه سيكون من السهولة واليسر إيصال مثل تلك الأسلحة وغيرها لأي جماعة حراكية في محافظات الجنوب والشرق، ولا أستبعد أن ذلك قد جري ويجري اليوم بتكتم شديد في تلك المناطق على التوازي مع ما يحصل عليه الحوثيين من تلك الدعوم؛ لأن طرق التوصيل والإمداد مخترقة على طول الساحل الجنوبي، مع انتشار الكثير من القطع البحرية للأسطول الإيراني في بحر العرب، ولعل أبلغ شاهد على ذلك أن جماعات القاعدة تخترق تلك المناطق وتتزود بالأسلحة، ثم لا تلبث أن تتوارى مع كل ضربة عسكرية تطالها، ثم تعاود الظهور فيها مرة أخرى!!
إن على اليمنيين وحكومتهم الحالية والقادمة أن لا ينخدعوا بالموقف السياسي الإيراني الذي قد يعلن إزاء ما يجري في المنطقة العربية، ومنها اليمن، حتى وإن لمست إيجابيته على الواقع، وهذا أمر مستبعد -قطعيا- لدي؛ لأن أي جماعة دينية مسلحة خارج الأراضي الإيرانية، وتدين بالولاء للفقيه؛ لن يسمح المساس بها أو التخلي عنها تحت أي ظرف؛ ذلك لأنها جزء لا يتجزأ من الدرع العسكري الإيراني الذي تراهن عليه في أي معترك قادم، ولولا افتقادها لهذا الدرع في حربها مع العراق، لكان الأمر مختلفا تماما في المدة والنهاية التي خرجت بها إيران في تلك الحرب.
كما أن على جماعة الحوثيين أن يعتبروا بمصائر الجماعات المسلحة المتمردة التي كانت تدار من وراء الحدود الوطنية لأي بلد، وأن تعود إلى رشدها، وتكون وطنية القضية والانتماء والنضال، وستجد- بعد ذلك- أن قضيتها ستحظى بتقدير ودعم الجميع، لا ذلك الدعم القائم على العمالة والمناكفة والانجرار وراء بخس الأثمان والمغريات.