آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

صناعة الذاكرة الوطنية ‏

‏"التاريخ مصادر، يتنافس عليها فاعلون، ما برح عددهم يزداد، لأهداف ‏ومصالح مختلفة وفي أشكال متباينة" كما قال المؤرخ هانس غونتر ‏هوكرت. ‏

والواضح أن الثورات العربية في 2011م شكّلت نقطة فاصلة ما بين ‏مرحلتين، وفتحت الباب من جديد لإعادة كتابة التاريخ بعيداً عن الرواية ‏السائدة التي كرّستها الأنظمة المهيمنة في الخمسين عاماً الماضية. ‏

سقوط نظام «صالح» يعني سقوط حقبة كاملة هيمنت على اليمن منذ بداية ‏السبعينيات، ومع سقوطه بدأت سردية جديدة للتاريخ الماضي تخرج إلى ‏العلن، رواية أخرى للحقبة الماضية تصارع على صناعة المستقبل في ‏العقدين القادمين من خلال تصويب التاريخ الماضي. ‏

بدأت موجة جديدة لإعادة الاعتبار إلى التاريخ المصادر بشخوصه ‏وأحداثه، هذه السردية الجديدة أعادت صورة علي سالم البيض ‏المقصوصة من لوحة رفع علم الوحدة، وأعادت إبراهيم الحمدي وسالم ‏رُبيع علي إلى القناة الرسمية لليمن، وأعادت صورهما إلى الشوارع ‏العامة، وفتحت الباب المغلق على أرشيف الرؤساء السابقين، وإجمالاً فتح ‏المجال لإعادة النظر في كل الادعاءات التي كرّسها نظام «صالح» ‏باعتبارها حقائق. ‏

أتذكّر قبل سنوات أن صديقاً لي في مجلس النواب طلب مني معاونة أحد ‏القادة العسكريين القدماء لسلاح المظلات في كتابة ورقة مشاركة عن ‏ملحمة السبعين يوماً؛ وبقيت يومين أستمع إليه حتى لخّصت ما قاله في ‏ورقة يفترض أن يقدمها إلى الندوة المذكورة، وعندما قرأتها منشورة ‏فوجئت بنسف كل ما قاله الرجل بدس سطرين تتحدث عن لقاء الرجل ‏بعلي عبدالله صالح في إحدى المعارك، حيث صوّر الأخير على أنه جاء ‏على ظهر دبابة منقذاً مجموعة من الجرحى!!.. وقد عرفت لاحقاً أن هذه ‏الإضافة كانت شرطاً لصرف سيارة لصاحب الذكرى بالإضافة إلى ‏وظيفة «مستشار محافظ». ‏

على هذه الشاكلة تم تزييف جُل التاريخ اليمني ليتواءم مع رواية صاحب ‏السلطة آنذاك ونظامه الذي مثّل امتداداً لانقلاب 5 نوفمبر وترسيخاً ‏لسيطرة النخبة القبلية العسكرية على ثورة سبتمبر مع صعود علي صالح ‏إلى قمة السلطة، وفق هذا النظام الطائفي وروايته يعتبر قائد فك الحصار ‏عن صنعاء وبطل السبعين يوماً عبدالرقيب عبدالوهاب متمرداً ‏وصعلوكاً..!!!. ‏
حملة التذكير بالمخفيين قسرياً عبر جدران الشوارع تمثّل خطوة في سياق ‏إعادة الاعتبار إلى التاريخ المصادر أكثر من كونها مجرد مطالبة بكشف ‏المصير المجهول للمخفيين، هو هدف “كشف مصير المخفيين” غير أنه ‏ليس متن القضية؛ فجوهر الحملة هو إعادة الاعتبار إلى هؤلاء الرواد وما ‏حملوه من أفكار وما ضحّوا من أجله من مبادئ وأهداف. ‏

هؤلاء المخفيون ورفاقهم الذين تمّت تصفيتهم، ومن عُذّبوا واعتقلوا ‏وقُصفت أعمارهم في السجون وخارجها شكّلوا الشطر الثالث، فيما كانت ‏أجهزة الشطرين في الشمال والجنوب تحبس وتعذّب وتقتل وتصفّي وحتى ‏تتفق فيما بينها - وهي المتمترسة في إطار النظام الشطري لكل شطر - ‏تتفق على تبادل التصفيات للمعارضين في صنعاء وعدن؛ لقد قتل أحمد ‏حسن الحمادي؛ أبرز معارضي نظام صنعاء بعدن أثناء مشاركته هناك ‏في فعالية حزبية، فيما قُتل “بلحمر” أحد معارضي عدن في صنعاء!!. ‏

التنافس على إعادة صياغة الذاكرة الوطنية قد يأخذ أبعاداً أخرى مع ‏إصرار بعض مرجعيات الحراك الجنوبي على اعتساف التاريخ مجدداً ‏بتصدير روايتها الخاصة لما حدث عشية الاستقلال في الجنوب وما تلاه ‏من مسار انتصر للوحدة اليمنية والهوية الوطنية اليمنية للجنوب. ‏

هؤلاء لا يصارعون على الماضي؛ بل على المستقبل، وهم بإصرارهم ‏على الجدال حول الهوية الغامضة «للجنوب العربي» والاستماتة في نفي ‏الهوية اليمنية عن الجنوب إنما يبتغون التأسيس لانفصال مستقبلي وليس ‏التأسي على الهوية المهزومة الضائعة في 67م، على افتراض وجودها ‏أصلاً بحسب زعمهم!!. ‏

الحوثيون لا يجرؤون على الجدل الآن حول الإمامة، وسرديتهم الخاصة ‏إزاء ثورة سبتمبر، وبدلاً عن ذلك يذهبون بعيداً إلى بعث الجذور الشرعية ‏للإمامة من وجهة نظرهم، وهم بهذا الحرث في وادي «حق الولاية» ‏الغابر يتوخون تصحيح التاريخ وفق روايتهم منذ 1400 سنة وصولاً إلى ‏الإمام الرابض في النقعة. ‏

في اليمن لا تقتصر صراعات رواية التاريخ على الماضي الذي سبق ‏الثورة السلمية في 2011م، بل إن ما حدث في عام الثورة نفسه لايزال ‏موضع جدل لروايات متعددة، وكل رواية تنطلق من المصلحة التي ‏تحدّدها الأرضية السياسية التي تقف عليها. ‏

ويرجع ذلك إلى عدم سقوط النظام في اليمن بشكل كامل كما حدث في ‏مصر وليبيا وتونس، وأدّى ذلك إلى بقاء مؤسساته في صيغة التوافق مثل ‏مجلسي البرلمان والشورى والمشاركة في الحكومة عبر إرادة الرئيس ‏السابق ومعاونيه وليس عبر حزب المؤتمر كمؤسسة قادرة على التجدد ‏والتغيير. ‏

من هنا لاتزال وجهة نظر النظام «الساقط» مستمرة في النظر إلى الثورة ‏بمسمّى الأزمة، مع أن الأزمة هم من صنعوها لمواجهة الثورة، إلى ذلك ‏هناك بعض القوى التي اصطفت ضمنياً مع الرئيس السابق ونظامه من ‏منطلق أن الثورة «اختطفت» والأكثر تعبيراً عن الحقيقة أن هذه ‏الأطراف التي تمنّعت عن تأييد الثورة بمبرّر اختطافها لا تستطيع أن ‏تتمثّل المصلحة الوطنية العامة إلا إذا كانت مصلحتها الخاصة غالبة عليها ‏وفي صدارتها.‏
‏ ‏
في المحصلة نجد أن الثابت الآن هو أن الصخرة الكبيرة التي كانت تسد ‏الأفق على الجميع قد أزيحت؛ أو على الأقل توارت جانباً، وفتح المجال ‏لإعادة كتابة التاريخ الذي يمثّل في جوهره صراعاً على مستقبل اليمن ‏أكثر من كونه صراعاً على رواية ماضيها أثناء حقبة الهيمنة القبلية ‏الاستبدادية التوريثية. ‏

زر الذهاب إلى الأعلى