قبل اثني عشر سنة تقريباً؛ فوجئت بالبروفسور فرانسوا بورغا (كان يومها مديرا للمعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية) يسألني باهتمام وانزعاج واضحي عن سر حملات الدعاء القائمة في المساجد ضد اليهود والنصارى! ولم أتردد في التوضيح له بأن هذا الأمر ليس جديداً كما يتصور.. ثم إن الناس يفهمون أن المقصود بالدعاء هم الصهاينة والنصارى الذين يؤيدونهم في عدوانهم في فلسطين وليس يهود صعدة وريده أو نصارى مصر والشام أو الجاليات الغربية في البلدان الإسلامية، وبدليل أن هؤلاء يعيشون بأمان، ولم يحدث أن خرج المصلون بعد صلاة الجمعة ليعتدوا على يهود اليمن أو النصارى الموجودين بصنعاء تأثراً بدعاء الخطباء عليهم!
لم يكن غريباً بالنسبة لي أن ألحظ تفهم "فرانسوا بورغا" لتوضيحي؛ فهو أحد أبرز المستشرقين المختصين بشؤون الحركات الإسلامية؛ وأكثرهم تفهما لعوامل نشوئها وصعودها الشعبي، وأكثرهم جراءة على إدانة التاريخ الاستعماري الأوروبي الشرق الإسلامي. والذي أتذكره يومها أن "بورغا" كان مغتما كثيراً لما سمعه عن الدعاء في المساجد، وعرفت منه تلميحاً أن أصدقاء يمنيين له من اليساريين والعلمانيين هم الذين حرصوا على إيصال هذا الكلام إليه لا لإثارة حميته لليهود والنصارى فهو أصلاً علماني أو لاديني وذو خلفية ماركسية قديمة.. ولكن كان الغرض؛ كما فهمته بعد ذلك؛ هو إثارة الرجل ضد الإسلاميين "المتعصبين" الذين يكفرون اليهود والنصارى ويدعون عليهم بالهلاك وهو المتعاطف معهم المراهن على أن الحركات الإسلامية أكثر أصالة وشعبية من غيرها من الحركات السياسية العربية!
وعندما أعددت بعدها بقليل كتابي الأول "التطرف والتكفير في اليمن" خصصت حيزاً لمناقشة هذا الكلام من وحي حديث بورغا بعنوان "تكفير اليهود والنصارى في المساجد" في فصل بعنوان "المساجد في دائرة الاستهداف" بعد ان صار الحديث عن التكفير في المساجد موضة في المجتمع اليمني...
الغرض من هذه المقدمة؛ التي طالت بعض شيء؛ أن نوازن بين موقف فئات من اليساريين والعلمانيين اليمنيين قبل ظهور فتنة صعدة تجاه الدعاء في المساجد ضد اليهود والنصارى، وموقفهم الأخرس بعدها وحتى اليوم تجاه حملات ترديد شعار الحوثيين المعروف "الموت لأمريكا.. الموت لليهود...."، وعطفا على ما قلنا بالأمس فإن الممارسات الحوثية لإجبار المواطنين على ترديد شعار الموت واللعن لم تجد عرقا يساريا ولا علمانيا (إلا مرة واحدة حسب علمي لدى الأستاذ إبراهيم محمد حسين) يغضب منها كما كان يحدث تجاه خطب الجمعة.. وحتى الذين انفجروا واللائي لطمن وجوههن غضبا أيام ثورة التغيير الشعبية من شعار "أنا الشهيد القادم" بحجة ان الثورة هي ثورة حياة وليس ثورة موت.. حتى هؤلاء لم يؤثر عنهم غضب ولا مقال ولا تغريدة ضد شعار الموت الحوثي، وحتى عندما طبع على الجدران في شوارع صنعاء وكتب في اللافتات والملصقات ران الصمت العميق، ونامت حميّة الدولة المدنية والقبول بالآخر والتعايش معه، وعدم جواز الإساءة لليهود والنصارى العرب! وربما كان الموقف العالمي تجاه ما يحدث في فلسطين أفضل من الموقف اليساري المحلي تجاه ما يحدث في صعدة والذي فشل حتى في أداء دور ... بان كي مون!
والذين دعمموا عن شعار الحوثي لا ينتظر منهم بالعقل أن يتعاطفوا مع أهالي صعدة الذين فرض عليهم أن يرددوا أو يستمعوا لشعار اللعن والموت عقب صلاة كل جمعة.. وطبعاً نحن نتحدث فقط عن الذين ما يزالون على يساريتهم وعلمانيتهم وجنونهم بالدولة المدنية الحديثة ! أما الذين صاروا "حوثة" ومؤمنين بالموت واللعن فهم ممن يقال عنهم : حوالينا .. لا علينا!
الموقف من مآسي المواطنين غير الحوثة بصعدة وبمجتمعات النازحين تواجه أيضا بالصمت الرهيب ويبخل عليها مجانين الدولة المدنية والمواطنة المتساوية: وفصل الدين عن الدولة (حتى بالهمس واللمس والآهات) على رأي الشاعر المصري كامل الشناوي في قصيدته الشهيرة "لاتكذبي"!
وكل ما يحدث بصعدة من هيمنة مذهبية لا تعني الذين حرضوا "بورغا"؛ فقد تغيرت النفوس، أو بالأصح انكشفت على حقيقتها.. ووجود ثمانين ألف نازح بسبب الحوثي مسألة فيها نظر، وهيمنة حزب "ديني" واحد في صعدة تحتمل التأويل.. وحتى التلفيق كما حدث مع النائب الحوثي الذي سئل عن إمكانية سماح السلطة الحوثية للمعارضين لها بإقامة اعتصامات في صعدة.. فرد بالإيجاب لكنه استدرك بأنه لا يوجد في صعدة ما يستدعي إقامة اعتصامات!
سبحان الله.. الخالق الناطق.. كلام يشبه ما كان يردده المخلوعون: ابن علي، مبارك، والقذافي، وعلي صالح.. تشابهت قلوبهم.. والعقبى أن تتشابه مصائرهم!
مواضيع متصلة:
اللعنة الملعونة في.. صعدة! (1)