آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

فرسان ودروع الرئيس هادي

تقوم وتظفر ثورة أي شعب على أهم عاملين رئيسين هما: الكفاح المسلح، والصراع السياسي، وهما عاملان ملتحمان لا يمكن الفصل بينهما، مثلما أنه لا يمكن لأحدهما الاستغناء عن الآخر، فما لم تحققه المدافع، تبلغه السياسة، وما لم تبلغه السياسة تحققه المدافع، ولذلك يقال: إن الحرب امتداد للسياسة أو تواصل لها، وقد تتآزر تلك المدافع مع السياسة لإنجاح تلك الثورة دون أن تتلبد الأجواء بأدخنة البارود، ودون أن تُراق على الأرض الدماء، وهنا توصف الثورة بالبياض.

في فبراير 2011م، خرج الشباب عزّلًا وبصدور عارية، يفتشون عن وطنهم الذي اختطف منهم لعقود، وعن ربيعهم الذي شتى قبل أن يحل الشتاء، وكانوا - وهم ماضون إلى ذلك - يؤمنون أنهم ليسوا ذاهبين إلى رحلة استجمام أو ملهى ترفيهي، بل كانوا يؤمنون بأنهم ماضون لانتزاع حقوق مسلوبة، واسترداد أحلام مصادرة، وأن ثمن ذلك هو أرواحهم الطاهرة التي ترخص في هذا المضمار.

كانت الثورة في أيامها الأولى تسير على دولاب واحد، هو دولاب الشباب، غير أن سيرها لم يكن مبشّرًا بأي تقدم ثوري؛ لأن مخالب النظام فولاذية وبناءه حصينًا؛ فجاءت السياسة لتكون دافعًا لها، وقد تمثل ذلك الدافع بالأحزاب السياسية والمكونات الاجتماعية المختلفة، ولما اشتد عودها وعلا صوتها ونضجت صحوتها، واجهتها القوى الحاكمة المضادة بالخداع والمخاتلة، ثم القمع والإرهاب والتنكيل، لوأد الثورة في مهدها، وما زال الكثيرون يتذكرون كيف كانت الصدور العارية تتلقى الرصاص، وكم كانت التضحيات في الأيام الأولى للثورة؛ لذلك أيقنوا أن المضي على هذا النهج ليس سوى الانتحار بعينه.

في خضم ذلك الاتقاد والاندفاع الثوري الهادر، حصل الفرز والاستقطاب الثوري، وظهرت ملامح وهويات الكثير من مكونات الساحة الثورية، وتبين أن البعض لم يكن التحاقه بقافلة الثورة إلا كدخول ابن سلول وأصحابه تحت مظلة الإسلام، وكان مما يعلمه الكثير من الشباب الثائر – كذلك - أن جماعات إمامية وانفصالية وغيرها، تسللت إلى تلك الساحات بغية تمزيقها وتشتيتها، فيما كان البعض الآخر منها يبحث عن سبيل وصول إلى السلطة ليجعلوها على غير النظام الجمهوري، لكنهم انكشفوا كما انكشف أصحاب "مسجد الضرار"، وقد كانوا، وما زالوا، على ذلك الوهم يترقبون ترنح الذبيحة ليتداعوا عليها بمُداهم وسيوفهم، وقد أدرك الجميع أن الثورة ليست ثورة شعب ضد نظام فاسد فحسب، بل ثورة ضد كل دعوة ارتدادية وانفصالية.

إزاء تلك الوقائع وغيرها، كان لابد للثورة وشبابها من حامٍ وحارس، وهو الجيش، وأنىّ يكون هذا الجيش معها، وجميع من يقوده ويتحكم بوحداته في البر والبحر والجو، هم أقرباء الرئيس السابق؛ من الأبناء، والحفدة، والأصهار، والمقربين؟!، أما وحدات الأمن المركزي التي كانت تفرض سيطرتها الأمنية على أكثر من عشرين محافظة؛ فكانت في يد أحد أبناء إخوة الرئيس السابق، ومثلُ ذلك أجهزة الأمن القومي، ووحدات مكافحة الإرهاب، والقوات الخاصة، التي كانت - كذلك - في قبضة المقربين.

حينما أعلن اللواء علي محسن الأحمر انضمامه وتأييده السلمي للثورة الشبابية، والتزامه بحمايتهم حتى تحقيق الأهداف التي ثاروا لأجلها، سقط في أيدي أولئك الذين اعتلوا ظهر الثورة، وهم يبيّتون في نفوسهم نوايا الارتداد عن النظام الجمهوري وعن الوحدة اليمنية، وسعوا في كل مرحلة من مراحلها لحرفها عن المسار السلمي الذي انتهجته، واجتهدوا في استدعاء العمل المسلح الذي لم يكن جيش الثورة يلجأ له إلا دفاعًا عن النفس مما يقوم به مسلحو النظام وخلاياه وأنصاره الذين كانوا يفتكون بالشباب في كثير من مداخل ومحيطات ساحاتهم الثورية.

هل يستطيع أحد إنكار ما كانت تقوم به الجماعات الإمامية التي كانت تتدثر بلباس الثورة، من تحريض للقتل وترديد نداءات رافضة لاختيار المشير عبدربه منصور هادي رئيسًا انتقاليًّا لعامين، يدير فيها البلاد بموجب المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية؟، وهل يتذكر أولئك الشباب كيف كان الحوثيون - هم ومن معهم - يحرضون الجموع الغفيرة في مسيرة الحياة الأولى والثانية بعد وصولها إلى صنعاء، بأن تسلك الطريق المحاذي لدار الرئاسة لاقتحامها، وكيف كانت هتافاتهم - وهم يمرون بجوار منزل الرئيس هادي - تنفح عداء وبغضًا وقدحًا ورفضًا له من أن يكون رئيسًا؟!

الآن، والثورة ماضية في طريقها، نسمع من يستكثر على اللواء علي محسن صالح، أن يكون مستشارًا للرئيس هادي، وأن يمارس من موقعه – هذا - صلاحياته الدستورية والقانونية، ويؤلمهم أن يطل الرجل عبر وسائل الإعلام المختلفة، ويحضر الفعاليات الخاصة بالجيش الذي هو أحد المعنيين بشأنه وفق هذا المنصب، ثم يغض أولئك أبصارهم عن قافلة كبيرة من الفاسدين ممن أبقت عليهم الثورة في مناصبهم أو صعدت بهم سقطات السياسة، ولم تجف أيديهم من دماء الشباب، بل لا يزالون يتمعنون في التصدي لقطار الثورة ويضعون في طريقه العوائق والفخاخ.

لنسأل أنفسنا بتجرد: هل من الإنصاف أن يساوى بين من يحمي النظام الجمهوري والوحدة الوطنية والثورة، وبين من يسعى لاسترداد الماضي واستجلاب ولاية الفقيه وتمزيق البلاد أشتاتًا؟!

إن اللواء علي محسن الذي ارتضاه الرئيس هادي مستشارًا لشئون الأمن والدفاع؛ يعلم - أكثر من غيره - أنه أحد أصدق رجال المرحلة، وأقوى أصمّتها، وأنه أشجع الرجال وأوفاهم في الملمات التي تعصف بالوطن على امتداد معرفته به، سواء من خلال مواقفه في اضطرابات الجبهة الوطنية، أو في حرب الانفصال، أو في ظرف سقوط جزيرة حنيش في قبضة الاحتلال الإريتري، أو في حروب التمرد الحوثي، أو في مواجهة تنظيم القاعدة، ولو علم فيه غير ذلك، لما قربه منه هذا القرب، ولأقام عليها الدنيا، بما يملكه من سلطة ودعم دولي وإقليمي ومن أوراق ضاغطة لا يستغلها إلا انتهازي - وهذا أمر بعيد عن خُلق الرئيس هادي - وأبرز تلك الأوراق المساومة بقضية الجنوب.. لكن هيهات أن يتخلى الفارس عن درعه ولو كانت ثقيلة الوزن.

يعلم الرئيس هادي، بخبرته السياسية التي قضاها في الميدان العسكري والسياسي في عدن وصنعاء، أن القادم لن يكون طريقًا مفروشًا بالورود، وأن ما يُحاك ضد اليمن من قوى الداخل والخارج تستوجب منه الحفاظ على الرجل وأمثاله، الذين يمثلون قوة متنوعة التكوين، وفاعلة الأثر، بل وسيذكر الجميع أن غياب هؤلاء الرجال في هذه الظروف وما يستجد من أشباهها، سيكون مدعاة للتحسر والندم، ولن يخدم ذلك الغياب إلا ذوي المشاريع الحقيرة والمصالح الأنانية.

إن علينا، ونحن نلم بهذه الإطلالة، أن نتأمل ما يجري في العراق وسوريا ولبنان من تنافس واصطراع طائفي وعرقي وسياسي يستمد دعمه من خارج الحدود، وما يجري في مصر من غليان شعبي خطير وبإيقاد مستورد، وعلينا أن نفتح أعيننا وعقولنا لكل ما هو قادم، وأن نعي بأن مثل هذه الأحداث جاهزة في حسابات وخطط الأعداء الذين ينتظرون اللحظة التي تسنح لهم فرصها، كي يعرضوا بضاعتهم المنتهية الصلاحية، التي - دون شك - لن يقبلها هذا الشعب، وسيقف لها ولهم بالمرصاد.

زر الذهاب إلى الأعلى