آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

السيد، والمستر! (1-2)

أثارت كلمة «السيد» في وصف حسين الحوثي؛ في ثنايا تقرير لجنة قضية صعدة في مؤتمر الحوار؛ احتجاجاً وتأييداً في وقت واحد. فالمحتج عدّ الكلمة نوعاً من تكريس التفرقة بين المواطنين إلى سادة وآخرين أقل شأناً، والمؤيد تحجّج بأن الصفة لا شيء فيها بدليل أن السفير الأمريكي يوصف في الأخبار بأنه «السيد»!

من الواضح أن هناك فرقاً في استخدام كلمة «السيد» في الحالتين؛ ففي الأولى يُقصد بها التعظيم والتمييز لسلالة معينة، ونوع من الطبقية العنصرية؛ بدليل أنها تطلق حتى على الصغار وربما الفَجَرة، ويستنكف أن تُطلق على العلماء والقضاة، أما الاستخدام الآخر فيقصد به ترجمة للفظة الإنجليزية المشهورة «مستر» التي تطلق بمعانٍ متعددة تبدأ –وفق القاموس- من المالك، وصاحب الأمر والنهي، وتنتهي بالعبد أو الحيوان مروراً بالمعلم والأستاذ المختص في علم أو تخصص، وقائد الفرقة الموسيقية، وحامل الماجستير، ورب العمل، والزوج.. إلخ من يتولى مسؤولية معينة في مجال ما، وكما هو مفهوم فهي استخدامات غير حصرية بسلالة ولا جنس ما!

هذا الخلط المحرج والمثير لمشكلة في استخدام كلمتي: «السيد» (بالمفهوم المذهبي) و«السيد» (بالمفهوم الإنجليزي) ليس جديداً في الذاكرة اليمنية، فقبل تسعين عاماً واجه الرحالة المسيحي الأمريكي من أصل لبناني أمين الريحاني موقفاً مشابهاً عند دخوله مملكة الإمام يحيى جعله يرى الموت أمام عينيه، وكما روى في كتابه الشهير «ملوك العرب» فإنه عندما وصل إلى مجلس الأمير علي عبدالله الوزير أمير لواء تعز يومها؛ سلّمه رسالة من القاضي عبدالله العرشي مبعوث الإمام في عدن تعريفاً به؛ وفي الرسالة وصف المسيحي أمين الريحاني ب«السيد أمين الريحاني» على الطريقة المألوفة في العالم الخارجي، فظنّ علي الوزير أن ضيفه مسلم من السادة ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يعرف إلى أي فرعي السلالة النبوية ينتسب فسأل الريحاني قائلاً: هل أنت حسني أو حسيني؟

ولأن الريحاني سمع الإنكليز في عدن يحذرونه من أخطار رجال الإمام المتعصبين على المسيحيين، وكذلك حذّره عرب لحج وعدن من المتعصبين في مملكة الإمام، فقد وجد أن السؤال مصيبة كبيرة، فإن جارى الأمير فقد تنكشف حقيقته المسيحية المارونية ويقع في ورطة، وإن أقرّ أنه مسيحي فربما تصدق فيه تحذيرات المشفقين عليه! وقد نجح الريحاني في التخلص من ذلك الموقف المحرج بإعلانه أنه عربي يحترم كل المذاهب الإسلامية ويحب كل العرب، لكنه يعترف أنه عاش لحظات قاسية غيّر فيها دينه خمس مرات وهو يبحث عن جواب مناسب!

وفي مذكراته؛ يروي المناضل الراحل حسين المقبلي حكاية ذات دلالة عن الاستخدام المذهبي لكلمة «السيد» في مملكة الإمام؛ ففي موقف له مع الإمام أحمد في سنواته الأخيرة؛ كان يحدثه عن موضوعٍ ما، ويستشهد بكلامه ب«الأخ أحمد الشامي»، فلما سمع الإمام وصف أحمد الشامي ب«الأخ» تظاهر بعدم الفهم وهو يقول مستغرباً «من؟» فيكرر المقبلي الوصف «الأخ أحمد الشامي» ويكرر الإمام سؤاله المستغرب: «من؟»، حتى تنبه المقبلي للخطأ أو الجريمة الذي وقع فيه فتدارك الأمر وقال: «السيد أحمد الشامي» فانفرج الموقف وهزّ الإمام رأسه راضياً، وموافقاً، وداعياً له إلى الاستمرار في الكلام!

وفي حكاية ثالثة عن إشكالية «السيد» في النفسية المذهبية المتكبرة، فقد دخل أحد الشخصيات العلمية (من غير السادة) للسلام على أمير ذمار عبدالله الوزير الذي كان يستقبل زواره المهنئين بالعيد وبجواره ولد صغير، وفوجئ المنتظرون خارج مجلس الأمير بتلك الشخصية تخرج غاضبة وهو يقول «خرجنا من عند قناصل السماء!»، وفيما بعد عرف الناس سر غضبه؛ فبعد أن سلم على «السيد» أشار الأمير إلى الولد الصغير بجواره داعياً ضيفه أن يسلم على «السيد الصغير»!

أسوأ هذه الحكايات ما قيل إنها حدثت في منطقة الروضة بصنعاء؛ عندما رأى مواطن قبيلي بسيط أحد «السادة» يسير راكباً على دابة فحياه قائلا: «صباح الخير يا قاضي» فرد عليه من يصف نفسه بأنه ابن الرسول: «صباح الخير يا يهودي!»، وثارت مشكلة بسبب ذلك، وفسر «السيد» موقفه بأن القبيلي خفض مرتبته درجة من سيد إلى قاض، وهو بدوره خفض مرتبته، درجة واحدة فقط: من قبيلي إلى يهودي!

في طفولتي كان هناك وصف يطلق على بيت كبير في قلب مدينة التواهي بأنه «بيت السيد عبده غانم»، والمنزل الكبير ما يزال قائماً حتى اليوم، وهو يخص عائلة «غانم» الشهيرة فالجد هو أحد الشخصيات الشهيرة في عدن قبل مائة عام، ومن مؤسسي النوادي الثقافية الأدبية التي أطلقت النهضة في عدن، وابنه هو د. محمد عبده غانم الأديب والشاعر المعروف، وقد ظل وصف «السيد» حصرياً على المنزل من دون المنازل الأخرى يثير حيرتي: فلماذا يطلق وصف: السيد أو المستر على هذا المنزل دون أمثاله؟ حتى عرفت بعد سنوات طويلة سر التسمية، وأن «السيد» لا يقصد به كلمة «مستر» بالإنجليزية ولكن «السيد» المنتسب للسلالة الهاشمية، فآل غانم هم من هذه السلالة، مع فارق مهم بين الهاشميين السنة والهاشميين الشيعة، سوف نتحدث عنه غداً بإذن الله!

زر الذهاب إلى الأعلى