آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

السعودية وإيران.. صراع النفوذ والأذرع الطويلة

بالرغم من انتشار الدين الإسلامي وتوسع رقعته في بلاد فارس (إيران) وتمازج الثقافة العربية ‏والإسلامية بالثقافة الفارسية لعقود كثيرة، ونشوء حالات متعددة من التداخل السكاني بين العرب والفرس في ‏مراحل مختلفة من التاريخ الإسلامي؛ إلا أن الفرس لم يذوبوا كلية في كل ما هو عربي قدم مع الفتوحات، ولم ‏يستطيعوا التخلي عن نوازع الهوية الفارسية التي منحتهم مكانة مرموقة وجذرا أصيلا يضرب بامتداده في ‏أعماق التاريخ ولآلاف السنين، وظلت تلك النزعة تستحثها نوبات التنافس مع العرب في مناحي السيادة ‏والنفوذ؛ الأمر الذي بلغ بهما حد الصراع المسلح خارج سياق القاسم الإسلامي المشترك، في أكثر من واقعة ‏تاريخية.‏

وقد تخلى ذلك الصراع بين العرب والفرس على أكثر من ملمح، وكان ملمح القومية هو ما يستدعيه كل ‏طرف للتخويف من الآخر، وذلك على امتداد مراحل الصراع الدائر بين الطرفين، قديما وحتى اليوم، وكانت ‏النتيجة أن أضحوا على منبرين دينيين لأصل واحد هو الإسلام، وعلى معسكرين متقابلين، وسادت الروح ‏الناقمة المبغضة بينهما، وكان العرب يستشعرون في مراحل تاريخية كثيرة أنهم يخسرون جغرافيا في مناطق ‏جدودهم، وأن ذلك الخسران يتعاظم على تلك الرقعة مع انتشار التشيع وتقلص رقعة التسنُّن الذي يعتقد به ‏أكثرهم. ‏

تبدت السلفية الوهابية كأقوى خصوم للتشيع، واتسعت رقعتها لتطغى على بلاد عربية وغير عربية ‏كثيرة، وأعادت إلى الذاكرة معارك ابن تيمية وتلامذته مع تيارات التشيع وفرقه؛ فآزر الجناح الديني -ممثلا ‏بالسلفية الوهابية- الجناح السياسي الذين قامت عليهما دولة آل سعود في مراحلها المختلفة، ولعب التنافس ‏الغربي على المنطقة دورا كبيرا في اشتداد حرارة الصراع العربي والفارسي، وكان لاكتشاف طريق رأس ‏الرجاء الصالح، وشق قناة السويس، واكتشاف النفط في منطقة الخليج، مبرر لاستدعاء آخر للقوة التي تحمي ‏كل كيان وتحمي المصالح الوليدة، وكانت إيران هي مظلة التشيع على الأرض، وكانت الدولة العثمانية في ‏مواجهتها، ثم جاءت بعدها السعودية لتكون مظلة التسنن بالطريقة التي جاءت بها كدولة قوية إلى هذا ‏الوجود، وبين هذين الكيانين، حضرت دول أخرى كعامل توازن ديني وقومي في هذا الصراع، ومن ذلك: ‏مصر، والعراق، وسوريا، واليمن، وتركيا التي تُستدعى أو تفرض نفسها بين حين وآخر.‏

مع نشوء الكيان الصهيوني في المنطقة العربية بعد الحرب العالمية الثانية، لم يعد العرب يحسبون كلفة ‏المواجهة لخصم واحد، بل لخصمين، مع اختلاف نسب تلك الكلفة، وأخذت فيما بعد تُجرى المقارنات بين أيهما ‏أشد خطرا على العرب وبين أقلهما، وأصبح العرب كحال وجهي طبل؛ فاستفاد من ذلك ثلاثة أطراف رئيسة، ‏هي: دول الغرب، وإسرائيل، وإيران، وغرق العرب -وعلى رأسهم ممالك النفط- في قشور الحضارة، والاتقاء ‏‏-بما تنتجه مصانع الغرب الحربية- من الخصوم -بمن فيهم هذه الأطراف- الذين يديرون اللعبة من أراضي ‏دول هؤلاء العرب، وبأموالهم وعلى حساب مصائرهم المستقبلية، وسيظل الأمر كذلك حتى نسمع أن إيران ‏تعلن عن أن مشروعها النووي أضحى حقيقة مؤكدة، وأن القبول به هو أفضل الخيارات التي تبقي على ‏المنطقة بسلام، في مقابل أن طاقة النفط لن يطالها أي خطر إيراني!!‏

والسؤال: ماذا قدمه العرب لمثل هذا الموقف؟ يرى العرب المستظلون تحت راية إيران دينيا، أن ما ‏بلغته إيران هو حق مشروع، وأنها أجدر به ممن سواها؛ لأنها أهل لذلك التفوق والاستحقاق، وأن ما بلغته ‏إنما هو مكسب للإسلام والمسلمين جميعا، وأن نهاية الكيان الصهيوني سيكون على أيديهم، أما الطرف ‏الآخر- وهم زعماء السنة، وتحديدا حكام السعودية وإمارات الخليج، ومن سار في ركابهم- فهم عملاء للغرب ‏وإسرائيل، وأن إسرائيل لا تبدو جادة في خصامها معهم، مثلما أنهم كذلك معها، بل إنهم أول من يجب أن ‏يُشرع معهم بالجهاد وصولا إلى القدس!!‏

ومع ذلك الطموح الإيراني المجنّح، وتكاثر أنصارها وحلفائها من العرب؛ لا غرابة أن نجد من إيران تلك ‏الشهية الغريبة التي تكشر فيها عن أنيابها ضد أغلب الأقطار العربية، مع ما ابتلعته من أراضيهم على ‏حدودها الغربية، البرية والبحرية، وما تزال تتطلع إلى مناطق أخرى فيما وراء مياه الخليج العربي ومياه شط ‏العرب، غير أن ما لاقته من مواجهة؛ جعلها تستثير العاطفة المذهبية والطائفية في البلدان التي تريد الاقتراب ‏منها، وذلك بطريقة يمكن تسميتها ب"الهجوم بالاقتراب الحذر" وهي إستراتيجية فاعلة اتبعتها بعد خروجها ‏الخاسر من حربها مع العراق بين:1980-1988م، كإجراء هجومي استباقي غير معلن ضد أعدائها الفعليين ‏والمحتملين في محيطيها الإقليمي وما وراءه، على أن هذا التوجه كان حاضرا في فترة حكم الشاه، قبل ‏سنوات الثورة الخمينية عام 1979م، إلا أن الطائفية الدينية لم تكن حاضرة بقوة حينها، وقد زاد من قوة ذلك ‏التوجه الوفاق الأمريكي الإيراني آنئذ، في سبيل مواجهة الخطر السوفييتي، فاحتلت إيران ثلاث جزر إماراتية، ‏هي: طنب الصغرى، وطنب الكبرى، وأبو موسى عام 1971م.‏

كما مارست إيران تلك الإستراتيجية بالتدخل الفعلي في أراضي دول أخرى، برا وبحرا وجوا؛ وهو ما ‏قامت به في إقليم ظفار العماني، ضد مليشيات الجبهة الشعبية لتحرير إقليم ظفار، التي كانت تدعمها حكومة ‏الجنوب في عدن ومن وراءها الاتحاد السوفييتي، وقد بدأ التدخل الإيراني في الفترة بين:1971-1976م، ‏وذلك بعدما رفعت يدها عن التدخل غير المباشر في اليمن، مع حصول المصالحة الوطنية بين الجمهوريين ‏والملكيين، وقد كان ذلك التدخل بناء على رغبة السلطان قابوس بن سعيد، نظرا لما كانت تتمتع به إيران من ‏قوة عسكرية ضاربة في تلك الفترة، واستغل شاه إيران تلك الرغبة ليخلف لبريطانيا في المنطقة، بعدما بدأت ‏بإجلاء قواتها من الشطر الجنوبي من اليمن ومن إمارات الخليج؛ فلم يتحقق له ذلك المطمح، بل خسرت ‏الكثير من المعدات الحربية والعشرات من الضباط والأفراد.‏

ووفق ذلك الطموح وقوى الكبح المضاد؛ فليس بغريب أن نري في كل حالةِ وجودٍ إيراني في بلد عربي ‏ما، وجودا سعوديا مماثلا؛ ففي حالة الحرب العمانية التي جمعت بين سلطة مسقط مع مليشيات الجبهة ‏الشعبية لتحرير إقليم ظفار، كان السعوديون مع مقاتلي الجبهة، ثم تحولت بعد ذلك ضدهم، بينما كان الوجود ‏الإيراني مع السلطان، وبدا ذلك واضحا منذ عام 1971م، أما في اليمن؛ فقد كان الإيرانيون والسعوديون في ‏خندق واحد، هو خندق الملكيين، منذ الأيام الأولى لثورة سبتمبر عام 1962م، وحتى تحقق المصالحة الوطنية ‏عام 1970م، لكن ما يؤخذ على ذلك الوجود بين الكيانين، هو التفاوت الكمي والكيفي بينهما، حيث تمد إيران ‏حلفاءها بسخاء منقطع النظير، فيخلصون لها النوايا، فيما تقتّر السعودية على حلفائها بالمدد؛ ولذلك تكون ‏النتائج سالبة باتجاه الرياض؛ فتلجأ للتدخل فعليا تحت أي مبرر، كما فعلت مع الحوثيين على حدودها مع ‏اليمن عام 2009م وما بعد ذلك التاريخ، وكما فعلت -كذلك- في البحرين تحت مظلة قوات درع الجزيرة في ‏أوائل عام 2011م!!‏

إن التنافس الإيراني السعودي في المنطقة مستعر وسيزداد استعارا، وهو مع ذلك لا يكتسب حضورا ‏جغرافيا وبشريا وماديا إلا مع هشاشة وتداعي الأنظمة الحاكمة فيها، مع شيوع الاضطرابات السياسية التي ‏تقف السلطات عاجزة عن السيطرة عليها؛ فيكون مدعى الاختراق الإيراني عن طريق جناح الدين، ولأن ‏إيران هي من يمثل الهجوم، والسعودية هي من يتقي ذلك في الأعم؛ فإن إيران تحاول الوصول إلى أهدافها ‏البعيدة عبر نقاط الاقتراب، وهي على ذات الطريقة التي يجري بها اجتناء ثمار "التين الشوكي" بعيدة المنال، ‏وهي طريقة الخطاطيف في الأذرع الطويلة، وقد نجحت في استقطاب الكثير من الفرق الدينية ذات التوجه ‏الشيعي في أكثر من قطر، ومن ذلك: البحرين، ولبنان، واليمن، والكويت، واستطاعت تحقيق نجاحات ملموسة ‏وبطول نفس؛ ففي لبنان كانت المحصلة حركة أمل وحزب الله، وأوصلت حلفاءها في العراق إلى رأس السلطة، ‏وفي اليمن تستحث الخطى لبلوغ حلفاءها الحوثيين المكان ذاته على أقل غاية، وفي سوريا ولبنان يجري ‏الاقتتال العنيف من أجل الإبقاء على أقوى الخطاطيف وأصلد الأذرع.‏

لم تكن السعودية- ومِن ورائها العرب- في غفلة من ذلك الاختراق والاقتراب، فاستطاعت أن تستثمر ‏الجدار الجغرافي العربي المضروب حولها، وتعمل من وقت لآخر على تماسكه وانسجامه -ما أمكن- مع أمنها ‏القومي، وأضحى ذلك الجدار جدار دفاع عربي أول في البوابة العربية الشرقية، وعززت من متانته ‏دبلوماسيا وعسكريا، بل إنها دعمت مشاريع تسليح لبعض تلك الدول في مراحل المواجهة مع إيران ‏الخمينية، ومن ذلك العراق واليمن، وحافظت على ذلك الجدار بحيث لا يتجاوز كل مكون فيه مفهوم "الدول ‏الحاجزة" التي لا تنقلب عليها مستقبلا، ثم طالت أذرعها شرق إيران، حينما دعمت المشروع النووي ‏الباكستاني بقوة، وتدخلت بشكل أو بآخر في مصير القرار الأفغاني، مع أن بلوغها ذلك المكان كان موجها ‏نحو الوجود الروسي مع التوجه الأمريكي المشارك لها، ليصبح لديها أذرع طويلة تضاهي الأذرع الإيرانية ‏في تلك الدولة. ‏

ومع حساب قيم الخسائر التي خلفتها تداعيات الثورات العربية، ونصيب كل من طهران والرياض من تلك ‏القيم؛ نجد أن طهران هي الأربح؛ ذلك أن اليمن وغيره من بلدان عربية أخرى، يعاني سكانه حالة عطالة ‏كبيرة، وتبعات أزمة اقتصادية مر بها خلال عامين، وأن احتمال عودة تلك العمالة إلى بلادها بحسب أنظمة ‏العمل الجديدة فيها؛ ستشكل عامل قلق سياسي واقتصادي في تلك الدول؛ ما يثير النقمة على السعودية ‏ومصالحها، ولعل ما هو حاصل اليوم من تواتر أنباء عن إزماع جماعة أنصار الله الحوثية على استيعاب ‏العائدين من المهجر السعودي وتجنيدهم في قواتها المتمردة؛ هو ما يثير القلق والتوجس، وما يزيد من ذلك ‏الحال أن تستقطب الجماعات الإرهابية الكثير من هذه الأعداد في المحافظات المتاخمة للسعودية، وهو ما ‏سيجعلهم محل ابتزاز للقيام بأي أعمال إرهاب أو مواجهات مسلحة متوقعة مع النظام في صنعاء أو مع ‏القوات السعودية على الحدود، التي ستجد نفسها على خط المواجهة، سواء كان أولئك العائدون المستقطبون ‏في صفوف الحوثيين أو في صفوف تنظيم القاعدة.‏

وفي الاتجاه السوري واللبناني؛ فإن حلفاء طهران هناك، لا يبدون في خطر، وأن الحل سيكون على ‏غرار ما جرى في اليمن، وهو ما يعني بروز تراكم القوى المضادة للسعودية ومن معها، بما يخلق تعاضدا ‏جديدا في المستقبل قد يحيط بها من الجهات الأربع، أما مصر؛ فحتى القادمون إلى السلطة-على افتراض ‏تخلي الإخوان عن مواقع لهم للمعارضة- نجد أغلبهم بمن فيهم رجل الشارع -أيضا- يقفون موقف الساخط من ‏النظام السعودي الذي وقف مع الرئيس السابق حسني مبارك، وفي وجه ثوار25 يناير 2011م.. وكم سيكون ‏مؤلما أن نرى ونسمع أن الإيرانيين يجرون تدريبات عسكرية غير معروفة على جزر إريترية لطالما أنفقت ‏السعودية الكثير من أموالها في مراحل الثورة الإريترية المختلفة، منذ مطلع الستينات، وحتى تحقيق ‏الاستقلال عام 1993م. ‏

كما أن علينا أن نحزن أكثر وقد بلغ الحمق والبغض الشديدين لدى بعض حكام الخليج أن استعْدوا مصر ‏ونظامها القائم بعد ثورة 25 يناير 2011م، وتمادوا في ذلك، فتحول رجال ذلك النظام ومن معهم ممن ‏يمسكون بالسلطة إلى المانح الإيراني السخي؛ لتكون هذه المواقف ديونا مؤجلة القضاء -مستقبلا- لكل ‏منهما، وما هؤلاء من بطش إيران بمأمن؛ كيف لا، وقد جاءت الانتخابات الرئاسية الإيرانية برئيس أصلاحي ‏التوجه، مهمته الأولى -كمواطن إيراني يسعى لتمكين بلاده من أسباب التفوق- الخروج بحلم إيران النووي ‏إلى التحقق، وتعزيز مكانتها الدولية والإقليمية، ورأب صدوع علاقتها مع محيطها القريب والبعيد بما يخدم ‏مصالحها، في حين أن السعودية وإمارات الخليج تمعن في استعداء المواطن العربي، وتضعه على السوية ‏في المعاملة مع أبناء شرق آسيا، وتلهث وراء قشور الحضارة، وليس لها من مشروع ردع كالذي ستكون ‏عليه إيران مستقبلا؛ لتقع هذه الدول تحت رحمة أكبر خصمين حقيقيين للأمة، كما يقول ساستها وعلماؤها، ‏وهما: طهران، وتل أبيب!! ‏

زر الذهاب إلى الأعلى