آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

عن ذاكرة صالح «العربية»!‏

ضحالة مُحَاوِر صالح على قناة العربية أفقدت الحلقات قيمتها وحولت البرنامج إلى ترويج ‏دعائي للرئيس السابق وتوجهاته، أكثر من كونه برنامجاً حوارياً يفترض أن يفتح باباً للنقاش ‏حول الحقائق المغيبة وحيثيات المواقف وخلفياتها من خلال الحفر في الأرضية التي وقف ‏عليها صالح ومبرراته وحيثياته..‏

مذيع بلا إلماحية ويفتقر إلى الإلمام بالأحداث والقضايا التي يطرحها كمحاور للنقاش، وعديم ‏القدرة على مقاربة الشخصية التي تقف أمامه من خلال الأسئلة الحوارية التي تفترضها نوعية ‏الإجابات، أو أنه وقناته متواطئان للترويج الدعائي لصالح..‏

‏ كيف يمكن أن يمر قول صالح أنه كان يحارب الجماعات الإرهابية المتطرفة قبل حرب ‏‏94، دون أن يدمغ بسؤال عن مصداقيته، في ظل ما يعرفه كل المشاهدين وما غدى كحقيقة، ‏أن نظامه استخدمهم في عمليات الاغتيالات آنذاك وتحالف معهم وشاركوا بفعالية في ‏الحرب؟.. لماذا يرى صالح أن خصومه تعمدوا أن يضعوا بنوداً تعجيزية في وثيقة العهد ‏والاتفاق؟.. لماذا يراها تعجيزية؟!.. وهل يكفي أن يسأل المحاور عن هذه البنود ببلاهة ويكتفي ‏بتمنع صالح عن إيرادها وإحالته إلى نصها؟..‏

نص بنود الوثيقة يكشف طبيعة الموقف الذي يراها تعجيزاً شخصياً له.. من هنا يكون الحكم ‏اللامركزي وتفكيك السلطة المتمركزة في الفرد تعجيزاً حقيقياً لرئيس يهدف إلى الاستحواذ ‏الشامل الكامل على السلطة والبلد وتأبيدها في شخصه وتوريثها لابنه، كما حدث وبينت ‏السنوات اللاحقة للحرب الكارثية التي شرخت النسيج الوطني وأسست لكل هذا الخراب وهذه ‏المخاطر التي تهدد الكيان اليمني ووحدته وأمنه واستقراره.. ‏

كيف يمكن أن نستوعب أن رئيساً ترك اقتصاد بلاده مدمراً بعد ثلاثة عقود في الحكم يفاخر ‏انه وحزبه متفوقان في إدارة الاقتصاد؟.. والجملة هنا كافية للتناقض مع الواقع المادي ‏الملموس بغض النظر عن مدى صحة تكملتها التي تبرر لصالح تفوقه المزعوم في الاقتصاد ‏مقارنة بالإسلاميين "حزب الإصلاح"، الذين رأى فيهم صالح خطباء وواعظين لا يصلحون ‏لشؤون الحكم وخصوصاً الاقتصاد.. ‏

أقول: بغض النظر عن ذلك، مع أنه أطلق حكماً معيارياً وأصدره كتعميم، والواقع أن ‏الإسلاميين كحزب سياسي مثلهم مثل غيرهم تحكمهم الوقائع ونحكم عليهم بالتجارب وليس ‏بالتعميمات المسبقة، وقد رفضهم في ائتلافه معهم ،لأنه ينفذ برنامج استحواذ عقب الحرب ‏أكثر من كونه يرى فيهم غير متخصصين، وقد بدأه بإقصاء الاشتراكي وتبعه الإصلاح ‏ولحقهم حلفاءه في حاشد وسنحان، حتى ضاقت الدائرة عليه وابنه، فكانت أزمة النظام وانفجاره ‏تزامناً مع موجة الربيع العربي التي شملت اليمن بثورتها الشعبية السلمية. ‏

هذه انتقاءات عابرة من سياق حوار يمتلأ بالفجوات والفراغات التي كان ينبغي أن تملأ، ‏والنقاط التي تستدعي الحفر، والأسئلة التسلسلية التي تلح على الحضور وتتوارى خلف سحنة ‏المذيع المطمئنة في برنامج يحتاج إلى تحفز مقدمه وقلقه وإلحاحه وليس إلى هدوءه ‏وطمأنينته.. فلاشات انتقائية تتعلق بوقائع قريبة، فما هو الحال بالأحداث التأسيسية نهاية ‏السبعينات والتي تحتاج إلى إلمام أوسع للحوار حولها.. ‏

من هنا بدى المحاور التلفزيوني ذو الوجه المسطح وكأنه يؤدي عملاً روتينياً إدارياً، يقلب ‏المحاور واحداً تلو الآخر كنشاط يفترض أن يخلص منه، لا كمحاور نقاش تحتاج إلى إبداعها ‏أثناء الحوار بالأسئلة الذكية والحفر في الإحداثيات الأكثر أهمية في تاريخ الرجل وحيثياتها ‏وما ترتب على أثرها من نتائج وتأثيرات. ‏

كان بإمكان قناة العربية أن تحول الحلقات المذكراتية مع علي صالح إلى عمل إبداعي لافت ‏يمكنها من المنافسة في هذا النوع من البرامج، ويضيف للحياة السياسية اليمنية والعربية مادة ‏خصبة للدراسة والتناولات البحثية، غير أنها بعثت لنا بالمذيع ذي الوجه القمري ببلاهته ‏وسذاجته وإعداده المهترئ، فتحولت "الإثارة المفتعلة" إلى مادة تستدعي السخرية، وغدى ‏البرنامج وعاءً لتبجحات مدعاة للاشمئزاز والتقزز يظهر فيها فاقد السلطة محاولاً تأكيد جملته ‏وإحياء حضوره وتلميع صورته في وقت لم تطوَ صفحته كلياَ.. رئيس سابق، نعم، ولكنه ليس ‏مجرد ذكرى ولا زال متواجداً كمشروع سياسي ينتظر فرصة للانقضاض من جديد على ‏السلطة.. ‏

مذكرات الرؤساء الذين حكموا على رأس الديكتاتوريات التي أقاموها في المنطقة العربية ‏خلال العقود الماضية مادة بحثية أساسية لفهم سنوات الجمر والرماد بشرط أن تكون مذكرات ‏حقيقية لا استمراراً للمغالطات والخطاب الدعائي الذي يحتاجه رجل السلطة لتزييف الحقائق ‏وترويج بقاءه وامتلاكه للسلطة.. ولا فرق هنا أن تكون المذكرات مكتوبة بمبادرة من المعني ‏نفسه أو تكون نتاجاً لحوارات مطولة ومعمقة تقوم بها قناة تلفزيونية أو مركز بحثي يُسلم إليه ‏الدكتاتور المعني أو يضع نفسه بمحض إرادته في حوزته لإجراء الحوارات المطولة ‏والدراسات المتخصصة على شخصيته ورؤاه ودوافعه واعتباراته التي حكمت شخصيته ‏ودفعت به إلى أن يفعل ما فعل من أحداث وتوجهات أضرت بشعبه وفوتت عليه عقوداً من ‏السنوات كان يمكن أن تقفز بها إلى مصاف الدول المتقدمة كما فعلت دول مثل كوريا ‏وماليزيا، وهي نماذج كانت بداية السبعينات في مستوى واحد مع العراق وسوريا ومصر ‏واليمن، إن لم تكن حينها أقل إمكانية للنهوض مقارنة بمواردها ومعطيات واقعها آنذاك. ‏

أحزنني كثيراً إعدام صدام حسين لأسباب عديدة ليس من بينها ما يتعلق بتأييدي للرجل أو ‏سياساته أثناء فترة حكمه.. أولاً لأنه حوكم بقوة وإرادة احتلال أجنبي.. وثانياً لأنه كان في ‏أزهى فترات حياته وأجملها، حيث تخفف في السجن من كل أوساخ فترة حكمه وبدى وكأنه ‏تمكن في مشهده كسجين من تأكيد كاريزميته الشخصية وتفوقه كذات بالانتصار على قفص ‏الاتهام ومشهد المحاكمة، وهو مالم يستطع أن يفعله كرئيس.. والأهم من ذلك؛ وما يعنيني هنا ‏وأستحضره في سياق الحديث عن مذكرات الرؤساء وأهمية الاستماع لهم بعد تحريرهم من ‏السلطة، أو تحررهم منها، ودراسة شخصياتهم، فقد كنت أتمنى حينها أن يتم تسليمه لمحكمة ‏الجنايات الدولية لنشهد جدلاً خلاقاً حول فترة حكمه مثل تلك التي شاهدها العالم في محاكمة ‏سلبودان ميلوسفيتش.. ‏

محاكمة ميلوسفيتش مثل محاكمة صدام حسين أو القذافي أو بشار الأسد أو صالح ليست ‏محاكمة جنائية وليس بالإمكان إقامتها على الأرضية الجنائية وإنما محاكمة سياسية لنظامه.. ‏وبحسب المفكر والمؤرخ الألماني بيتر رايتشل، فإن (ممارسة القانون واتباع الإجراءات ‏القضائية الشكلية ضد الجرائم المنظمة التي مارسها النظام سيثبت سريعاً بأنها غير كافية، فهي ‏أولاً لا تهتم إلا بالذنب الفردي والمسؤولية الشخصية عن أفعال منافية للقانون، كما أن ‏إجراءات القضاء الجنائي المعروفة لا تناسب الكمية الكبرى من المشاركين بالجريمة والسبب ‏هو أن نوعية وحجم الجريمة تجاوزتا العلاقة- والتناسب- بين الذنب والجزاء وألغت ‏صلاحيتها، فلا التعامل السياسي ولا التعامل الحقوقي ممكن مع براءة «تتجاوز الفضيلة» ‏كهذه وذنب «يتجاوز الجريمة» كهذا).. كما "كتبت حنة أرندت إلى كارل ياسبرز عام 1946 ‏‏(إن شنق غورنغ مثلاً كان ضرورياً، لكنه ليس العقوبة".‏

إذن ينبغي أن يحاكم الديكتاتور سياسياً بواسطة الحوار، ولكن بالطبع بعد تجريده تماماً من ‏السلطة وكف ضرره وشره وتعطيل أدواته ومصادرة أملاكه وثروته التي حازها من خلال ‏استغلاله لسلطته. ‏

‏ هي محاكمة سياسية أولاً وأخيراً، وينبغي إجراؤها بالحوار الحر معه سواء عبر وضعه في ‏قفص محكمة أو كرسي برنامج تلفزيوني أو الحوار معه ودراسته في مركز بحثي متخصص.. ‏ومحاور الحَفْر التاريخي هي الأفكار والحيثيات والدوافع وليس مجرد الأحداث والوقائع أو ‏القرارات. ‏

زر الذهاب إلى الأعلى