ما يحدث في مصر يبعث على الذعر، الأمم تتداعى إلى الحواف و عند الحافة يأخذ الصراع شكل الانتحار .
ليست هذه هي الطريقة الأفضل لتفكيك الإسلاميين، الخطاب الديني على الدوام هو الأكثر تأثيرا في الجمهور وهو غالبا أكثر قدرة على صناعة التضحية وصناعة التضحية هنا -وفي هذه الحالة تحديدا - يعني صناعة الكارثة .
المتدينون هم الأكثر حماسا للثورة ، حتى في الثورات الأكثر بعدا عن الدين .
بعد الثورة البلشفية في عام 1917م كتب الشاعر الروسي الكبير الكسندر بلوك قصيدته الشهيرة "اثنا عشر"، رأي فيها "جنود الجيش الأحمر يقودهم المسيح"
و لا يخفى الدلالة الدينية للرمز "اثنى عشر" حيث يرمز لحواريي المسيح، وهذا يعني أن الجيش الأحمر لم يكن قادرا على الاستغناء عن خطاب الدين في أهم ثوراته لأن دفع الناس إلى التضحية ليس أمرا يسيرا .
للدين تأثيره العميق في البشر، وهو الذي أمد الفلسفة بفكرة الخلود كما يعتقد أفلاطون ومثلما يقول المؤرخ الكبير بلوتارخ "إن الحفريات وجدت شعوبا بلا فن وشعوبا بلا حضارة ، لكنها لم تعثر على الإطلاق على شعوب بغير معابد" .
يمكن للدين فعل ماهو أكثر، في العصور الحجرية كان البشر يقدمون بعض الشباب والشابات الأكثر قدرا في المجتمع كأضحية في موسم الحصاد ، في شعوب أخرى كان يجب أن ينتزع قلب الأضحية الضحية نابضا بعد شق البطون ، وكانت شعوب أخرى يرمون أطفالهم في فم الآلهة طلبا للمطر وهم في قمة الرضى والسعادة .
لماذا أتحدث عن الدين ، لأن الصراع الآن ينحو منحى دينيا ، هذه حماقة لكنها صارت واقعا وحقيقة أنشأتها مراكز التطرف عند الجميع ، أولئك الذين يحتكرون التدين أو أولئك الذين يشبعونهم سخرية وتهكما كونهم متدينون عاجزون عن كل شيء .
عند هذه النقطة يمكن الحديث عن اللذة والألم ، في الفلسفة الحديثة صارت المنفعة تأخذ مكان اللذة ، تحصيل اللذة والتحرر من الألم هي قاعدة الحياة كما تعتقد الفلسفة ، لكن اللذة والألم ليس دائما محل اتفاق .
يمكن أن نفهم هذه الجدلية حين تعلم أن التعري و ممارسة الجنس أصبحت وسيلة فاعلة في التعذيب النفسي ، في حين تشكل هذه الممارسة نوعا من اللذة عند آخرين ، هذا المثل البسيط يمكن أن يعيد التعريفات بطريقة أكثر دقة ، والذين انتقدوا هرم موسلو في علم الإدارة كانوا يتحدثون عن هذه الاختلافات التي تصبح محل اعتبار إذا صارت تشكل أغلبية المجتمع .
من أهم وظائف الدولة الحديثة تحقيق الرفاه للشعب ، لكن يجب الأخذ بنظر الاعتبار أن كثيرا من المتدينين للرفاه عندهم صور أخرى ، هذه الخاصية ليست متعلقة بدين معين بل هي تقريبا تشمل جميع الأديان التي يكون من السهل على المتدين أن يضحي بكل شيء في سبيل رفاهية المعتقد .
هذه الجزئية الهامة جدا في المجتمعات الشرقية لا يمكن إهمالها لأنها ستقود الجميع إلى خنادق الخطر في مجتمعات يشكل الدين عاملا مهما في التركيبة الثقافية للشعب ، الدين المعتقد سواء كان صائبا أو غير ذلك .
أعلم أن هذا ليس الوقت المناسب لتقسيم الناس بين أن يكونوا أتباعا لداروين أو أن يكونوا في سقف الكنيسة سكستين ، لكن ما يحصل الآن من تداعيات سيجر الناس إلى هذه الحتمية التي ستعيد الأمة عصورا إلى الخلف .
لا أومن بالحتمية التاريخية ولكني أومن بأنه من الممكن صناعة هذه الحتميات والتحكم بها، وأعتقد أن ما يحصل في مصر أصبح أمرا حتميا جرى البناء له بشكل دقيق مرة بالغباء وأخرى بالحمق والاستهتار وثالثة ورابعة .
الأصوب هو رعاية عملية التحول وتشجيع ظواهر التعصب والتطرف أيا كان طرفها وإرساء قيم الحرية ومعها احترام حق الآخر ، هذه المفاهيم التي يبدو أنها صارت شعارات يحملها الجميع ويخطئون الطريق إليها .
الدرس الأهم الذي يمكن فهمه من الحالة المصرية أن البناء هو العملية الأكثر تعقيدا في الثورة، لأن الشعور بالخطر والخوف من المستقبل يمكن أن يجمع كل المتناقضات في صف واحد، ولكنها سرعان ما تتفكك حين يزول الخوف .
ولقد أضحى واضحا أن هذا البناء لا يمكن أن يتم دون شراكة حقيقية تكون بين الجميع حتى تصل المجتمعات إلى حالة من النضج والوعي يمكنها من حراسة الديموقراطية وحق الإنسان الآخر والتعامل الناضج معها، لأن هذه المكتسبات المهمة لا يمكن حراستها بغير التفاهم والشراكة في ظل مجتمعات تعودت على الشمولية والاستبداد والقمع حتى أصبحت ثقافة لدى السلطة والمعارضة على السواء .
غني عن القول هنا أن الشراكة لها أطراف عدة ، التطرف أيضا، وهذا يعني أن على الجميع أن يمد يده بذات القدر وأن يحمل هم الوطن بذات القدر فالجميع شركاء في المسئولية والكل شركاء في الفشل .
مصر ليست هي الحالة المثالية الآن واجبة التقليد، ثمة نماذج من التعايش الرائع تسد عين الشمس ، ومصر هي أسوأ ما يمكن تقليده الآن إذا ما تجاوزنا الحالة السورية المرهقة .
لقد فقدت الثقافة بعدي الزمان والمكان، وأصبحت المثاقفة والمعرفة والتأثير والتأثر والتفاعل مع العالم هو الطريق الأمثل لصياغة المستقبل، ولهذا فإن خوف تفشي ظاهرة الاستقطاب الديني والسياسي والفرز الطائفي يبقى قائما، فأي متابع لصفحات التواصل الاجتماعي في اليمن يدرك كم أن هذا الانتقال ممكنا .
وكم نكون مخطئين حين لا ننقل غير الأسوأ .