[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

هكذا هزمت السرطان

لازلت أذكر ذلك اليوم جيدًا عندما كان عمري أربعة عشر عامًا.. كنت في طريقي إلى غرفة العمليات وأنا ممتد فوق سرير متحرك,مر شريط حياتي من أمامي كفلم وثائقي مصحوبًا بوقع أقدام عمي حمود حسين وهو يُجاري الممرض الذي يدفعني بقوة وكأنه يود لو افتداني بنفسه أو حتى يقلل من اندفاع الممرض..لا مكان للكلام,فالصمت أبلغ من أي كلمات بل كان لغة في حد ذاته, وبقى بصري شاخصًا يطير في الأجواء يتكهن من أي الجهات يدخل الموت؟ وما شكل القوم الذي يحملونه؟ وما رائحة ملابسهم؟ وكيف يكون طعم الاحتضار؟؟

دخلت غرفة العمليات فانقطعت الحيرة بفعل ممرضة تعمل بجد على تعقيم أدوات الجراحة دون أن تدرك بأن أصوات عدتها كانت رثاء محزنًا ومرعبًا لي وكأنني في طقوسًا وثنية لقوم سيقدمون للتو أضحية بشرية للآلهة.

غرفة العمليات باردة جدًا فبدأت أرتعش من البرد الذي أمتزج بالخوف وربما بالجوع لأني كنت صائمًا يومها حتى اقترب مني ممرض استطاع قراءة القلق في عيوني, فأمسك بيدي وسألني: ما أسمك؟ بلعت ريقي المنقرض وقلت : مجلي.. ولم اسأله عن أسمه وما الفائدة؟ فهو متجه نحو الأولى وأنا أحزم الشنط صوب الآخرة. ثم سألني: خائف؟قلت: لا.. بس بردان,فأحضر لي بطانية دافئة حفزت دموعي ومشاعري التي تفتقد أهلي في تلك اللحظة وبُعدهم عني رغم حاجتي الماسة لرؤيتهم أو على الأقل لتوديعهم. العملية خطرة جدًا لكن لا خيار أمامي ولا حتى بقدونس لذا بدأ الممرض يُحدثني ويداعبني لكي يشتت انتباهي من التفكير فيها فجزاه الله خيرًا لأنه واساني في وحدتي بل أحسست بأنه ملاكًا أرسله الله لي أو على الأقل روحًا تحمل ريح أهلي الصائمين يومها من أجل شفائي لعل الله أن ينظر إلي و يرحم صاحب هذا الجسد الصغير!!

أتى المختص بالتخدير ووضع كمامة على أنفي وقال: تنفس بعمق, فأخذت أتنفس بقوة حتى سرى مفعول المخدر في دمي, والملاك مازال ممسكًا بيدي وكأنه يقول لي: سأذهب معك إلى آخر الدنيا فلا تخف. بدأ الوعي يتلاشى مني فأغمضت عيني, واستغفرت الله ثلاثًا, ثم تشهدت, وبقى السؤال مشنوقًا إلى أجل غير مسمى يهزني بقوة: هل ستفتح عينيك مرة أخرى أم أن الآخرة سيزيد من أهلها واحد؟ لكن الإجابة لم تأتيني فقد غرقت في سبات عميق.

شكرالله سعيكم أيها السرطان, فلا تخطفني بموت مبكر لأني أستمتع بحياتي رغم بساطتها ومرارتها, فأنا أريد أن أعيشها كاملة, وأن استهلك عمري الافتراضي, وأن أموت بعد أن تنتهي صلاحيتي كعلبة فول بلغت تاريخ الانتهاء.. فأنا أريد الموت على فراشي.. فلا يشرفني أن تكون نهايتي على يدك أيها المرض الخبيث اللعين. فالمعركة بيننا وبين السرطان غير متكافئة, فنحن كائنات تملك الحياة وهو كائن يملك الموت, ومع هذا مقدر لما نملك أن يموت ومقدر لك أيها السرطان أن تقتات على حيواتنا..

لقد أردت الثأر من السرطان ليس لي فقط وإنما للملايين الذين يقتلهم بغير حساب لكني اكتشفت بأني ضعيف وضعيف جدًا.. فلو كان السرطان رجلاً... نعم رجلاً...لفررت من أمامه واختبأت في مكان لا يراني فيه فأنا وللأمانة "حيري على من قدر " وأنا أضعف من أن أواجه قاتل محترف مثل السرطان فلا أستطيع المواجهة بمفردي فهو بحاجة إلى تكاتف المجتمع بأسره ضده.. فمن يعتقنا نحن ضحايا السرطان من هذه المحرقة؟

ستة عشر ساعة في غرفة العمليات هي مدة معركة دامية بيني وبين السرطان مابين كر وفر أمام عدو آتى ينازعني روحي التي وهبها الله لي ويسلب حقي في الحياة دون شفقة أو سلطان. ثم خرجت إلى غرفة العناية المركزة لأدخل في غيبوبة لمدة ثلاثة أيام عائدًا من ساحة حرب غير عادلة فأنا منهك القوى لا أملك أي سلاح بينما عدوي السرطان يتبختر في الميدان يقتل هذا و يعتق هذا.

عمر الشاقي باقي.. ولأني حظيت بفرصة ثانية في العيش معكم ليس معناه أني من أولياء الله الصالحين فأنا مجرد شخص بسيط لا أهش ولا أنش وذنوبي منيلة بسبعين نيلة!! لقد صحوت من الغيبوبة مشوشًا لا أدرك ما حولي فوقع بصري على عيون زرقاء لفتاة شقراء ترتدي بدلة بيضاء ومع هذا لست ساذجًا حتى أعتقد أنني قد مت وهذه الشقراء من حور الجنة فلقد أدركت أنها ممرضة أمريكية فأنا لو فقدت الوعي لسنوات وسنوات أستطيع تمييز الدنيا ورائحة نسائها. كانت ردة فعلي التي لم أفهمها أنني دخلت في نوبة بكاء شديد دون سبب لا فرحًا ولا حزنًا وإنما هكذا خورت البكاء!! وكانت الممرضة الأمريكية تضمني إلى صدرها وتقول بلكنة عربية مكسرة " موجالي..... لا تبكي...... أنتي كويسة" فزاد بكائي أكثر رغم إدراكي بأني فعلاً " كويسة" ولم أسكت عن الصراخ حتى أحضروا عمي حمود.. والفائدة التي خرجت بها من ذلك الموقف أنني أحسست بالشعور الذي يدفع الأطفال حديثي الولادة للبكاء فكل من يوهب الحياة تكون لديه خورة عارمة في البكاء كامتنان على هذه الهبة السماوية.

أطالع وجهي في المرآة فأقول لنفسي: يا لك من فتى نحتت الأيام شكلها على محياه, وحفرت أقدامها أخدودًا على سالفته!! لكي أكون صادقًا معكم فقد انتصرت على السرطان وفي نفس الوقت انهزمت.. نعم انتصرت لأني انتزعت روحي من بين أنيابه اللزجة, ولكني انهزمت لأن السرطان قد ترك له ظلاً في وجهي, أعتقني من الموت بعد أن تذوق قطعة من لحمي, وشرب كأسًا من دمي, ورسم طريقًا في جسمي كالطريق التي ترسمها القوافل في الصحراء, فليس أصعب على المرء من أن يُلزمه عدوه بأن يحمل أثر الهزيمة والانكسار على وجهه بين الملأ.

صدقني لا أكرهك أيها السرطان لكني أيضًا لا أحبك.. لا أريد مواجهتك لكني لست خائفًا منك.. أحاول تجنبك لكني لن أفر إن قررت اللقاء يومًا.. لن يمنعني هذا الكبرياء من الاعتراف لك بأنك لا تستسلم ولاتحب الهزيمة وأنك ستعود يومًا لمواجهتي.. عندها صدقني سأطلب الرحمة لكن ليس منك بل ممن خلقني وخلقك فهو الوحيد القادر أن يرحم عذاباتي وآلامي ويرفع أوجاعي وآهاتي..

مازال تراب المقابر عالق بأيدينا جراء دفن أحبة وأقارب قتلهم السرطان لذا فأنا متعاطف مع مرضى السرطان ممن عرفت وممن لا أعرف.. أحسب أن بيني و بينهم صلة رحم يمكنني تسميتها قرابة السرطان.. وما أنا إلا فارس انكسر سيفه في ميدان المعركة وعاد يجر أذيال الهزيمة ليحكي للجميع الرعب و الألم و التعب الذي تحملونه أمام هذا الوحش الضاري المتعطش للقتل لهذا فأنا أكثر الناس إحساسًا بقدر الألم الذي يفتك بكم, وبحجم الوجع الذي يسكنكم..مشفق أنا على كل الذين قتلهم السرطان ومشتاق لهم كثيرًا وأقول لهم: لم يعد لدي أي أمل في أن أراكم بعد اليوم لكني أظن بأن لديكم أمل في أن تروني. إخواني وأخواتي من ضحايا السرطان.. ربما أبقاني ربي قليلاً في الدنيا لكي أبلغ رسالتكم وأشرح مأساتكم لعل وعسى أن تتحرك للغوث قلوب رحيمة وأكف بيضاء سخية فأرجو من الجميع التفاعل مع مراكز مكافحة السرطان والحملات الخيرية لمرضى السرطان خصوصًا في هذا الشهر الكريم.

زر الذهاب إلى الأعلى