من الواضح الآن أن مصر تعيش حالاً حادة من الانقسام السياسي والشعبي لم تعرفها من قبل.
وهي لم تعرفها، ليس بسبب حدتها وخطورتها بل لأن الطرفين الرئيسيين لحال الانقسام هذه هما جماعة «الإخوان المسلمين» والمؤسسة العسكرية. وهي لم تعرفها أيضاً لأن هناك، وللمرة الأولى، طرفاً ثالثاً منخرطاً مباشرةً في حال الانقسام، وهذا الطرف هو الشعب.
من ناحية، ليس في هذا الأمر من جديد، لكن من ناحية أخرى، ينطوي الانقسام على أمور لم تعهدها مصر في تاريخها الحديث، الأمر الأبرز الذي لا يُعد جديداً في الموضوع هو أن المواجهة بين الجماعة والجيش ليست جديدة تماماً، بل تبدو وكأنها استعادة لما حدث بعد نجاح الانقلاب العسكري للضباط الأحرار عام 1952. حينها حاولت قيادة الانقلاب أن تكسب الجماعة إلى جانبها، وهو ما لم يتحقق، لأن كلاً منهما كان يعمل على احتواء الآخر تحت جناحه.
وانتهى الأمر بينهما بصدام وصل ذروته في ما عرف آنئذ بحادثة المنشية في مدينة الإسكندرية عام 1954.
واُتهمت جماعة «الإخوان» حينها بأنها تقف وراء محاولة اغتيال جمال عبدالناصر، زعيم الضباط الأحرار الذي كان لتوه تولى الرئاسة بعد إزاحة محمد نجيب، ثم استمر الصدام بين الطرفين، ليصل إلى ذروة أخرى، انتهت بإعدام عدد من قيادات الإخوان عام 1966، من أبرزهم سيد قطب، بعد ذلك خرجت الجماعة عملياً من حلبة الصراع، وذلك لتضافر عوامل عدة، من أبرزها شعبية جمال عبدالناصر التي اكتسحت الشارع المصري بخاصة بعد العدوان الثلاثي.
السبب الآخر كان هيمنة الميول القومية واليسارية على المزاج الشعبي لتلك المرحلة ليس فقط في مصر، بل في العالم العربي. ولا تقل أهمية عن ذلك طبعاً السياسات القمعية للأجهزة الأمنية التي كانت وظيفتها إسكات أي صوت مخالف لصوت السلطة.
عاد «الإخوان» إلى العمل السياسي في عهد الرئيس أنور السادات ثم حسني مبارك، لكنهم ظلوا ملاحقين من السلطة التي لم تأتمنهم لأسباب تتعلق أحياناً بالجماعة ومواقفها، وأحياناً أخرى بالطبيعة الاستبدادية للسلطة نفسها.
وفي هذا الإطار، كانت قياداتهم السياسية عرضة للاعتقال دائماً بخاصة في النصف الثاني من عهد حسني مبارك.
عندما بدأت ثورة 25 كانون الثاني (يناير) كان المشهد السياسي في مصر مختلفاً إلى حد كبير. كان النظام السياسي فقد شرعيته بعد أن فقد شعبيته، أو هكذا يبدو من حدث الثورة نفسه، لكن هذا لم يشمل الجيش أو المؤسسة العسكرية التي يبدو أنها، على رغم ما حصل للنظام السياسي، استطاعت الاحتفاظ بالكثير من شعبيتها، ولا شك أن الذي حقق لها ذلك هو ابتعادها عن قيادة النظام مع بداية الثورة وتمايزها عنه، وهو الأمر الذي أرغم الرئيس حسني مبارك على التنحي.
العنصر الثاني في المشهد مباشرة كانت جماعة «الإخوان»، كان يبدو لكل مراقب أن هذه الجماعة هي الفصيل السياسي الأقوى، والأكثر تنظيماً، والأكثر شعبيةً من بين القوى السياسية المعارضة للنظام. وأكدت ذلك نتيجة الانتخابات البرلمانية ثم الرئاسية في المرحلة الانتقالية الأولى بعد الثورة.
من الطبيعي في هذه الحال أن المواجهة الرئيسة المتوقعة في الصراع الذي فجرته الثورة سيكون بين الجيش من ناحية وبين «الإخوان» من ناحية أخرى، لكن هذا ما لم يدركه «الإخوان» أو ربما لم يعطوه حقه من الأهمية والخطورة، ربما توهم «الإخوان» أن قوتهم السياسية في مقابل خصومهم من القوى المدنية، ستسمح لهم بالهيمنة على الدولة، وأخيراً، بتحييد الجيش واحتوائه وهذا طبعاً ما لم يحدث على العكس، نفذ الجيش عملية انقلاب أخرى، أزاح بها «الإخوان» عن الحكم، والحقيقة أن هذا الانقلاب الأخير ليس انقلاباً كلاسيكياً كما حصل عام 1952، فهو يختلف من حيث أنه لم يكن سرياً، ولم ينفرد فيه الجيش بقرار الانقلاب، ولم يستلم الجيش فيه السلطة مباشرة بعد إزاحة «الإخوان».
استطاع الجيش بفعل سياسات «الإخوان» أن يستقطب القوى المدنية والدينية إلى جانبه، وأن يعزل «الإخوان» على هذا المستوى، لكن هذه القوى بخاصة المدنية منها لا تتمتع بقاعدة شعبية معتبرة.
كما استطاع الجيش أن يكسب ما صار يعرف ب«شباب الثورة» الذين يملكون وحدهم، إلى جانب «الإخوان»، القدرة على تحريك الشارع.
على الجانب الآخر، لم يتمكن الجيش من عزل «الإخوان» شعبياً. ومن هنا حال الانقسام الشعبي الحاد الذي فجّره الانقلاب العسكري ونشاهده هذه الأيام. واللافت في كل ذلك حقاً، أنه لا «الإخوان»، ولا المؤسسة العسكرية يمثلان الثورة، ولا يمثل أي منهما الحكم الذي يتطلع إليه الشعب من الثورة.
من هذه الزاوية، يبدو موقف ما يعرف ب«شباب الثورة» ملتبس في شكل صارخ، إذ يرفض هؤلاء الشباب حكم «الإخوان»، انطلاقاً من مبادئ وقيم ديموقراطية وليبرالية أو هكذا يبدو، مثلهم في ذلك مثل القوى المدنية التقليدية، والممثلة ب«الجبهة الوطنية للإنقاذ». ولهم كامل الحق في ذلك، لكنهم من الناحية الأخرى يوفرون الغطاء مع بقية القوى المدنية للجيش، لينفذ انقلاباً عسكرياً على «الإخوان»، باعتباره الطريقة الوحيدة للتخلص من حكم «الإخوان» ثم يستخدمون هذا الغطاء، لنفي صفة الانقلاب عما حدث، للتغطية على ضعفهم السياسي وربما الفكري أيضاً.
يكشف هذا الموقف الملتبس أمرين خطرين. الأول أن إيمان القوى المدنية بقيم الحرية ومبادئ الديموقراطية التي كانت المصدر الأول والأهم لإلهام الثورة أو هكذا يبدو هو إيمان ضعيف، ورقيق قابل للاختراق والتهاوي عند أول منعطف. وأكثر من عبّر عن هذا الضعف الباذخ هو الشاعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي في نقده الحاد (في جريدة المصري اليوم) للمستشار طارق البشري الذي وصف حركة الجيش بأنها انقلاب مناوئ للديموقراطية.
في مداخلته فصل حجازي، كما يفعل كل معارضي «الإخوان» الديموقراطية وقيمها عن الأدوات والآليات التي تقتضيها هذه الديموقراطية بحكم طبيعتها، وحفاظاً على قيمها.
كان من الواضح أن «الإخوان» فشلوا في تجربة الحكم، وكان من حق الشعب أن يطالب بالتغيير. لكن لم يكن من حق الجيش، ولم يكن من الديموقراطية أبداً أن تتولى قوة عسكرية، تابعة للسلطة التنفيذية المدنية، عملية التغيير.
هذا انتهاك صارخ للتراتبية المؤسساتية لدولة وليدة في طور التكوين، وتدخل عسكري آخر في شأن مدني، وهو ما يضعف الصفة المدنية المرتبطة بالقيم والآليات الديموقراطية للدولة التي كانت الثورة تطالب بها.
بعبارة أخرى، ثار الناس على الطابع الديني الذي يقال إن الإخوان كانوا يحاولون فرضه على الدولة، ليتم الاستعاضة عنه بالطابع العسكري لهذه الدولة. وكلاهما مناقض لمبادئ الدولة المدنية، وللقيم الديموقراطية. ثانياً كان هناك أكثر من سبيل ديموقراطي لتغيير حكم «الإخوان» بدل اللجوء إلى انقلاب عسكري، وإن بمواصفات مختلفة عن الانقلاب الكلاسيكي. كانت هناك خيارات دستورية لإزاحة الرئيس أو لتحجيم قدرته على المناورة دستورياً.
هناك مثلاً خيار تقديم انتخابات مجلس الشعب التي كانت ستقرر من هو الأكثر شعبية، وبالتالي من سيستولي على معظم من في هذا المجلس إذا خسر الإخوان في هذه الانتخابات، وهو ما كان يبدو مرجحاً قبل الانقلاب، سيكون بإمكان خصومهم تشكيل الحكومة وفقاً لدستور 2012، تتمتع بصلاحيات أكثر من صلاحيات رئيس الجمهورية. ولو حصل ذلك سيكون الرئيس مرسي أمام رقابة مثلثة: حكومة منتخبة ليست من جماعته، وقضاء مستقل ليس متعاطفاً معه، ومؤسسة عسكرية قوية ومستقلة، وغير متعاطفة مع «الإخوان» أيضاً.
لكن المأزق، وهذا هو الأمر الثاني، أن القوى المدنية تعاني من ضعف سياسي خطر على خلفية ضعف ثقافي وفكري يشبه كثيراً ضعف طبقة «الباشوات» في العصر الملكي أمام السفارة البريطانية والقصر معاً. كانت طبقة الباشوات هذه تدعي بأنها ليبرالية وديموقراطية، لكنها كانت تقبل بتدخلات القصر، والسفارة البريطانية في العملية السياسية، وتزوير الانتخابات، وأحياناً فرض حكومات بالقوة، ومن دون انتخابات أصلاً. ولذلك عرف ذلك العصر بأنه عصر ليبرالية الباشوات. موقف القوى المدنية حالياً الذي يدعي الليبرالية والديموقراطية، وفي الوقت نفسه يقبل بالانقلاب العسكري كآلية لإزاحة خصمهم السياسي، لا يختلف كثيراً عن موقف باشوات العصر الملكي من مسألة الليبرالية والديموقراطية. تغير المشهد. لم يعد هناك قصراً، ولا سفارة أجنبية. لكن هناك الإخوان، والجيش.
تتم شيطنة «الإخوان»، وتمجيد دور الجيش ودوره الوطني، لكن لا شيء على الديموقراطية، وقيم الحرية التي قامت من أجلها الثورة، تبدو مصر حقاً مرتبكة، ومنقسمة في شكل خطر، مرتبكة بين مصر الأيديولوجيا، وليس مصر المجتمع والتاريخ، وبين المعنى الحقيقي للثورة، وأهدافها الحقيقية. والمصريون معلقون بين أيديولوجيا اسمها مصر، وتوق إنساني اسمه الثورة. وبين الاثنين سموات وأراضين، من الأزمنة والأمكنة تحتاج عملية ردمها إلى ثورة شعبية أخرى، أيهما الذي يستخدم الآخر في هذه اللعبة السياسية المؤدلجة حتى العظم: ألجيش؟ أم القوى المدنية؟ لن نعرف الإجابة على هذا السؤال قريباً كما يبدو.
الأكيد أن «الإخوان» سقطوا من الحكم بالضربة القاضية من العسكر، لكنهم لم يخرجوا من اللعبة. هل تعلموا الدرس؟ والأكيد أيضاً أن ليبرالية الباشوات سقطت بسرعة من اللعبة، وباتت مكشوفة، وسيكون من الصعب أن تستعيد نفسها مرة أخرى.
هنا تكمن خطورة ما قام به الجيش، والغطاء المدني الذي قُدّم لقائد الجيش عبدالقتاح السيسي، والأكيد الثالث أن جيش 23 يوليو لا يزال الرقم الأصعب في اللعبة السياسية في مصر.
* كاتب وأكاديمي سعودي