الأمة الإسلامية اليوم تقف على مفترق طرق بعد الإنقلاب على الديمقراطية ومؤسساتها المنتخبة والتي أفرزتها صناديق الإقتراع، وشهد بشفافيتها ونزاهتها منظمات المجتمع المدني، والمنظمات والهيئات المتخصصة في الإشراف على العملية الإنتخابية من ألفها إلى يائها؛ سواء كانت هذه المنظمات داخلية أو خارجية..!
إن الإنقلاب قد وضع الأمة على مفترق طرق، وليس أمامها إلاَّ أن تختار بين طريقين لا ثالث لهما، ولا مناص لها من السير في أحدهما بعد أن أتضحت معالم هذا الإنقلاب، واتضحت ملامح الصورة لكل من خطّط أو موَّل أو شجع أو تغاظى أو نفَّذ..!!
فبعد أن انكشف المستور عن هذا الإنقلاب، وتبدَّت سوءته أمام الأشهاد من دون حياء ولا خجل، وأعلن عن نفسه دون مواربة أنه دعوة صريحة للعنف، وإعلان صارخ لكل من يهمه الأمر أن الديمقراطية الحقيقية فيها نظر..!
ليس أمام الأمة الاَّ أن تختار بين منهجين.. بين أسلوبين.. بين طريقين للوصول إلى السلطة وإدارة الدولة بكل مؤسساتها وتوابعها:
إما أن تصل قواها السياسية إلى الحكم عن طريق صناديق الإقتراع، أو عن طريق التوابيت والأكفان..
ليس هناك خيار ثالث، وعلى كل العقلاء والحكماء وأصحاب الضمائر الحية أن يعوا خطورة هذا الأمر، ومخاطر أن ينجح هذا الإنقلاب وأن يستمر على قيد الحياة.. إنها معادلة صعبة، وعلى أصحاب الفكر والمشتغلين بالهم السياسي ؛ أن يحددوا موقفهم مما يجري من عبث واستهتار بحاضر الأمة ومستقبلها..!
القضية ليست قضية شخص بعينه ولا قضية حزب أو جماعة أو منظمة أو هيئة بذاتها.. القضية أكبر من هذا وأعظم.. القضية أن نكون أحراراً أو لا نكون..!
القضية قضية كيف نُحكمُ وكيف نَحكمُ.. القضية قضية دستور وقوانين نابعة منه، يتساوى أمامها المواطنون كأسنان المشط.. ليس لأحد فضل على أحد، وليس هناك إصطفاء لحفنة من الناس على حساب شعب وعلى حساب أمة ملؤ سمع الدنيا وبصرها، وليس هناك أناس خُلقوا لكي يَحكموا، وأناس خُلقوا في محبتهم لكي يُحكموا.. إنها قضية دستور وقوانين ومؤسسات دولة تقضي على هذه الخرافة التي استمرت تعشعش في أذهان البعض لمئات السنين.. وتم استغفال البشر بها إلى يومنا هذا، ودفع الإستهبال بهذه الخرافة الكهنوتية أناساً أعلنوا بكل أسف وخزي عن عدم اكتمال آدميتهم ورفضهم لتكريم الله سبحانه وتع إلى لهم..!!
إن الإنقلاب دعوة صريحة للعنف ومقْودٌ للتطرف ورفض للسلم الإجتماعي..!
إنه من الواضح لكل ذي عينين أن الذين قاموا به أو الذين دعموه أو هللوا له في الداخل أو الخارج؛ لم يجيدوا دراسة واقع الأمة اليوم، ولم يستوعبوا الدرس من حركة الشعوب ضد الظلم والطغيان والإستبداد، ولم يشخصوا حجم السخط الذي يعتلج في صدور أبناء الامة، ولم يتبين لهم-رغم التجارب الكثيرة والمريرة- إيجابية العمل السياسي فوق الأرض، وسلبية العمل السياسي تحت الأرض..!!
لقد عاشت الأمة الإسلامية بمختلف شعوبها تجربة مريرة في كيفية الوصول إلى الحكم تمثلت في ولاية العهد رغم أنوف المواطنين، أو إعمالا للسيف فتكاً بالخصوم وترسيخاً للإستبداد..!
ولم يسعى حكماء هذه الأمة وعقلائها لتطوير دولاب الحكم بعد إنتهاء فترة حكم الخلفاء الراشدين، الاَّ ما ندر وتمثل في خلافة عمر بن عبدالعزيز ومحمد الفاتح رحمهما الله..
ولذلك فإن علينا أن نستفيد من التجارب الإنسانية التي اخترعها العقل الإنساني وطورها في آلية تحفظ للناس حقهم في اختيار حكامهم، وتحقن في الوقت نفسه دماؤهم، وتهدف إلى تماسك بنيتهم الاجتماعية..
اليس من حق المسلمين أن يستفيدوا من هذه التجربة الإنسانية وآليتها المنظِّمة لعملية التداول السلمي للسلطة بعيداً عن الأخذ بقاعدتها الفلسفية التي قد تختلف الأمة معها..
اليس من حق هذه الأمة أن تستفيد من هذه التجربة بعد أن تعطَّل العقل الإسلامي في حل معضلة كيفية الوصول إلى الحكم بدون صراعات تؤدي إلى سفك للدماء..؟!
السنا بشرا مثلهم؟ وهل يجب علينا الاَّ نأخذ بهذه التجربة حتى نخوض في بحور من الدماء، كما حصل في أوربا وأمريكا حتى وصلوا إلى ما وصلوا اليه من رُقيٍّ في هذا الجانب؟ اليس من حق أمتنا أن تسير في هذا الطريق من النقطة التي انتهوا اليها، مع العلم أن من حقنا أن نضيف إلى هذه التجربة ما يطورها ويرتقي بها..
إن تاريخ الحكم عندنا معروف للقاصي والداني، وعوائق الوصول اليه معروفة، وأسباب الصراعات حوله لم تعد مخيفة.. فأبناء الأمة لم يتقاتلوا يوما فيما بينهم بسبب فقه الوضوء، ولم تكن صراعتهم الدموية بسبب الضم والاسبال ولا قضية حيا على خير العمل أو صلاة التراويح، وإن وجد مثل هذا فهو محصور عند قليلي العقول أو من ليس لديهم عقول بالأصل.. لقد كان الحكم ومن أحق به وكيفية الوصول اليه هي السبب الحقيقي وراء كل نقطة دم سفكت أو تشقق حدث في الصف، أو أحقاد توارثتها الأجيال بوعي منها أو بدون وعي..!
إن الإنقلاب يستدعي العنف في أبشع صوره، ويحرض المعتدلين في صفوف الإسلاميين على عدم جدوى السير في طريق الاعتدال، ويدفع بالعدد الاكبر منهم إلى تغيير قناعاتهم بجدوى الوصول إلى السلطة بالاسلوب والإلتزام بالنهج الديمقراطي..!
إن عملية إقصاء الإسلاميين ستدفعهم إلى تحطيم الحواجز التي تقف حجر عثرة أمامهم وستجعل الاستقرار أمنية بعيدة المنال..!
لقد أصبح الاعتدال في صفوف الإسلاميين تيارا جارفا لكل أشكال التطرف والعنف، ويُخشى أن يتحول إلى عواصف تقتلع هذا الاعتدال، وينقشع عنه طوفان يقضى على الأخضر واليابس من عقول من يعيش الوهم الديمقراطي وصناديق الاقتراع والتداول السلمي للسلطة..!
لقد دارت نقاشات طويلة في صفوف الإسلاميين لسنوات عديدة حول التطبيق الجاد والحقيقي للديمقراطية، ومدى قبول الآخر للإسلاميين، وكانت الثقة تكاد تكون منعدمة في مصداقية التنفيذ، خاصة وهناك من هو على قناعة تامة بأن موقف الغرب في تعامله مع هذه القضية نابع في الأساس من مصالحه العليا دون النظر إلى مصالح الآخرين، الاَّ بالقدر الذي يخدمه، ولذلك فقد كان الخطأ القاتل للغرب يتمثّل في دعمهم للطغاة والمستبدين ردحا من الزمن ليس بالقصير..!
إن علينا جميعا أن نعقل انه- وبكل صراحة ووضوح- إذا استمر هذا الإنقلاب واستمر الدعم له- ماديا ومعنويا- من هنا أو هناك، فنخشى مانخشاه أن نجد أنفسنا- في طول العالم الإسلامي وعرضه- في أوضاع حالكة السواد، ومواقف متطرفة سيشكلها فكر متطرف، يتبناه أناس يعتقدون أنه لم يعد أمامهم مايخسروه، ولا نظن الاَّ أن ردود الأفعال قد اقتربت من حلقوم كل من يظن أن سياسة الإعتدال في طريقها إلى الفشل، وإذا لم يقم العقلاء في مجتمعاتنا، وفي مجتمعات الأصدقاء بتلافى ماقد يُحدق بالجميع من أخطار قبل وقوعها، وقبل أن يتلاشى تيار الاعتدال في بحر الندم، فإن الجميع سيتشاركون في دفع الثمن الذي نخشى أن يكون باهضا، وفوق مانتصوَّر أو نتوقع.. إن المسئولية التي تقع علينا تحتِّم علينا أن نمنع أنفسنا من الإنحدار نحو الهاوية..!!
*رئيس الهيئة العليا للإصلاح