آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

مصر.. التواطؤ أشدُّ من القتل ‏

القضية الآن في مصر ليست محمد مرسي ومصير جماعة الإخوان؛ القضية الآن في مصر هي ‏مصير الديمقراطية الوليدة، وحق الإنسان في الحياة، والتعبير والتظاهر السلمي والاحتجاج ‏المدني. ‏

العنوان المطروح على الطاولة والبارز على الشاشة هو مصير الحقوق والحريات والقيم ‏العصرية الحديثة والوسائل السياسية المدنية وحكم القانون والقضاء المنوط به فض المنازعات ‏استناداً لحكم القانون ومعايير العدالة؛ لا أن يتحوّل إلى أداة في يد السلطة البوليسية للتنكيل ‏بالخصوم. ‏

الإخوان الآن يُقتلون لأنهم يتمسّكون بالديمقراطية والحقوق والحريات والوسائل المدنية ‏السلمية للنشاط السياسي والتعبير عن الرأي والقيم الحديثة التي توافقت عليها كل الأمم ‏والديانات؛ وليس لأنهم مصرّون على تطبيق «الشريعة» وفق منظورهم. ‏

‏ يُقتلون لأنهم مدنيون وأحرار، وليس لأنهم متعصبون أيديولوجيون يسعون إلى السيطرة ‏على الحكم بسم الدين وفرض رؤيتهم وتفسيرهم وفقههم على الدولة والمجتمع. ‏

المتعصّبون العميان الآن في مصر هم النُخب الحديثة وأدعياء الانتماء إلى قيم العصر ‏ومفرداته المدنية والحقوقية التي أنجزها البشر وراكمتها الحضارات من أجل صون حق الحياة ‏والكرامة والحرية للمخلوق الفريد؛ الإنسان؛ وبالطبع ليس من أجل إذلاله وتبرير سلبه حق ‏الحياة وحق التعبير وحق الاحتجاج والتظاهر السلمي، وحريته في التعبير عن آرائه وتوجُّهاته ‏ونشاطه السياسي.‏

الإخوان ومرسي ليسوا قضيتنا، وصفحتهم مليانة لمن أراد الاختلاف معهم ونقدهم والتمايز ‏عن منهجهم؛ غير أنهم الآن على حق وأكثر اقتراباً من القيم التي يزعق بها محترفو الثقافة ‏والحداثة والمدنية. ‏

‏ هؤلاء الزاعقون الآن يهدرون حق الإنسان في الحياة وحريته وكرامته وحقوقه على مذبح ‏الوهم القديم الجديد، وهم التحالف مع السلطة البوليسية المستبدة بمبرّر ساذج وقميء يتدثّر ‏بفرض علمنة المجتمع وتحديثه بالعسف والقوة الباطشة. ‏

يتدثّر بذلك الهدف ليخفي الحقيقة التي مفادها اشتغال النُخب في بلاط الاستبداد والسلطة ‏البوليسية لضمان جلوسها في الهامش القصي للمصالح المافيوية الضخمة التي تتنامى بفعل ‏التسلط الذي يفرض قانونه على كل فضاءات المجتمع، ويفرز نخبته الاحتكارية على شكل ‏أجهزة أمنية وطبقة طفيلية في مجالات النشاط التجاري، محتكرين كل الفرص والتجارة ‏والمواقع الوظيفية العليا، طبقة فوق العلالي، وشعب كامل في الحضيض، وبينهما نقطة باهتة ‏صفراء وبالية تُدعى «النُخبة العصرية الحديثة». ‏

المثير للشفقة هو أن الواهمين يقارنون السيسي رهينة المال الخليجي وبيدق رجال الأعمال ‏الطفيليين الجديد ومضاد الديمقراطية وعدو الحقوق والحريات، يقارنونه بالزعيم جمال ‏عبدالناصر الذي انتمى إلى الشعب وأنجز مجانية التعليم واتخذ القرار الأهم في تاريخ مصر ‏خلال ألف عام بتوصيف مالك بن نبي، قرار تحويل الفلاحين إلى ملاك بين عشية وضحاها ‏‏«خمسة فدادين لكل فلاح». ‏

التواطؤ في مصر الآن أشد من القتل، التبرير الذي تقوم به النُخب التي ترفع عناوين ‏الليبرالية والعلمانية والحداثة أكثر قبحاً من القتل المباشر وانتهاك حق الحياة وحق التعبير ‏والإرهاب السلطوي البوليسي بكافة أنواعه الذي يُمارس على طرف لايزال حتى الآن متمسكاً ‏بالعمل السلمي ووسائل العصر الحديث والقيم الحضارية. ‏

‏ أمس فوّض مجلس الوزراء المصري وزير الداخلية باتخاذ كل الإجراءات ضد «العنف» ‏يقصد طبعاً مهاجمة المعتصمين في رابعة العدوية والنهضة ومنعهم بالقوة، أما العنف فلا ‏يحتاج تفويضاً؛ في مشاهد قتل المتظاهرين كان البلطجية ذوو الأقنعة السوداء يطلقون النار ثم ‏يهربون للاحتماء بجنود الشرطة!!. بينما الآلة الإعلامية تسمّي الضحايا «إرهابيين». ‏

‏ السلطة البوليسية تتبدّى في طورها الجديد عارية ولا لبس فيها، انقلاب عسكري أعاد كل ‏مفردات السلطة البوليسية إلى الواجهة وبقسوة أصلف من نظام مبارك المترهّل والشائخ، ‏المحتجّون السلميون يُقتلون بدم بارد، التنكيل بالخصوم بكل الطرق وباستخدام كل الأدوات، ‏من الأجهزة الأمنية والبلطجة مروراً بأداة القضاء الطيّعة؛ ووصولاً إلى الإرهاب الإعلامي ‏الشامل. ‏

‏ خمسون عاماً من المد والجزر والانقلابات والادعاءات والصراعات توّجت بعد تعب جميع ‏الأطراف وإنهاك الجميع وما لحق بالأوطان من دمار وحروب، توّجت بتيار برز بداية ‏التسعينيات مع نهاية الحرب الباردة بالتقاء التيارات والأحزاب على محاولة التأسيس لقواعد ‏حضارية تحكم الحياة السياسية ويحترمها الجميع، هذه القيم الجديدة تشمل الحقوق والحريات ‏بما فيها حق الحياة والتظاهر السلمي والتعبير عن الرأي وحكم القانون واستقلال القضاء ‏والتداول السلمي للسلطة وكل ما يتعلّق بالديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان. ‏

الآن بهذا التواطؤ الأيديولوجي المتعصّب والأعمى ضد تيار الإسلام السياسي نعود إلى نقطة ‏الصفر؛ إلى فجيعة الوطن الغابة: «من قوي صميله عاش... أو من قوي صميله غَلَبْ»!!.‏

زر الذهاب إلى الأعلى