كانت «الديلي تلغراف» على وشك الإغلاق منتصف الثمانينات بعد نحو قرن ونصف القرن من سعة الانتشار. تم تعيين المراسل الشهير ماكس هستنغز رئيسا للتحرير فعادت ال«تلغراف» تسبق «التايمز» بأكثر من 200 ألف نسخة كل يوم.
مذكرات هستنغز «رئيس التحرير (Editor) » تبدو مثل مجموعة دروس لأهل هذه المهنة، سواء تولوا مسؤوليات فيها أو ظلوا طليقين. أول هذه الدروس، التواضع. يقول هستنغز ما معناه، إن ولاية الأحمق سريعة الزوال. رئيس التحرير الناجح - يقول هستنغز - هو من يستقطب لا من يستبعد. من يسمع، لا من يتحدث عن نفسه دون انقطاع. من يفرح بأعداد اللامعين في صحيفته، لا من يغار منهم ويكرههم.
نشأ هستنغز لأب من كبار الصحافيين وأم من كبار الناشرين. سمع في المنزل مذ كان يافعا حكايات الحسد والغرور والفشل وعشرات الذين ينتهون ثرثارين في الحانات، لا ماض ولا حاضر ولا مستقبل. وشاهد هو عشرات «النجوم» يسقطون في آبار النسيان، لأنهم لمعوا دون أساس، أو جد، أو استحقاق، أو دراية. كان «فليت ستريت»، شارع الصحافة يستقبل القادمين بالعشرات ويرجعهم بالمئات، أدعياء لم يحققوا شيئا، وخاسرين أهلكوا المؤسسات التي أوكلت إليهم، فظنوا أنهم تملكوها.
عندما أصبحت رئيس تحرير «الأسبوع العربي» عام 1975 أقام لي الدكتور كلوفيس مقصود حفلا في منزله كان بين حضوره «سي. إل. سولزبيرغر»، نجل مؤسس «نيويورك تايمز» ورئيس تحريرها. سألته كيف نجحت تجربته. قال: لم أعامل نفسي يوما كصاحب عمل، ولا عاملت أحدا كرئيس تحرير، وما زلت إلى اليوم أتجول مثل بقية المراسلين: «عندما لا تعود تقرأ مقابلاتي مع سياسيي العالم، ابحث عني في صفحة الوفيات».
قلت له، لم أقرأ لك يوما ماذا تقول لمن تقابل؟ كأنه لا وجود لك سوى النقل. قال، هذا أول درس في الصحافة: لا وقت للقارئ ولا رغبة لأن يسمع رأيك. إنه يعرفك ويعرف سلفا ماذا تريد أن تقول؟ وهو يدفع بضعة سنتات لكي تنقل إليه ما يقوله أصحاب القرار وليس ما تكرمت عليهم بأفكارك وتاريخك في صنع السياسات وتصحيح مسار الكرة الأرضية. استح على حالك ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه. هذا إذا كان لها قدر.
أسس الأستاذ محمد حسنين هيكل مدرسة معاكسة، يكون فيها الصحافي أهم من موضوعه وأكثر حضورا، بسبب علاقته الخاصة مع جمال عبد الناصر. وقرر كثيرون تقليده من دون أن يكونوا هيكل أو أن يكون هناك عبد الناصر. كان ذلك نقيض المدرسة الصحافية التي برع فيها عمالقة الغرب، كالفرنسي فرنسوا مورياك أو الأميركي والتر ليبمان. الأول كان قريبا من ديغول، والثاني ضيفا دائما في البيت الأبيض. لم يكتبا سوى ما قيل لهما، مع أنهما قالا - وسمعا – أكثر بكثير.
الغرور عماء. والأعمى لا يعود يرى سوى نفسه. وفي النهاية يصطدم بها ولا يرى سوى مرآة محطمة لا يمكن إعادة ترتيبها إلا كلوح زجاج مهشم.