آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

انقلاب مصر.. يستقر أم ينكسر؟

لم تشهد القاهرة حراكا سياسيا حاشدا كما يجري في الأيام الأخيرة مع دخول أطراف إقليمية ودولية على خط الوساطات أو المفاوضات بين مجمل أطراف دعم الانقلاب العسكري بقيادة الفريق عبد الفتاح السيسي وأضلاعه الرئيسية، وبين قادة الرفض المدني.

والأمر الذي يتضح بجلاء أن هناك تورطا كبيرا للمشروع الانقلابي في مصر دون أن تتحدد حتى الآن معالم خروج له، أو للمشروع الوطني المقابل المتمثل في التمسك بعودة سيادة الدولة المدنية المنتخبة.

ولم يبرز على السطح من هذه المفاوضات ما يمكن أن يُشكل مشروعا انتقاليا واضح المعالم لكلا الطرفين وللشعب المصري برمته، لكن المؤكد أن الانقلاب تعثر، وأعطت أضلاعه رسائل متعددة، بعضها يُصعد على رابعة العدوية بذات الدفع للحسم الدموي، في حين تشتعل مسارات خلافٍ شرس داخل هذا التحالف.

إن رسم ما يجري على الساحة من مواقف ومدارات تطور ربما يساعد على فهم أو استشراف هذا المستقبل، وقبل ذلك معرفة كيف تعثر الانقلاب عملياً على الأرض.

وهذا ما سنحاول أن نرصده هنا، فنفكك الصورة المتداخلة والمزدحمة في المشهد المصري، مع التأكيد على ضرورة التأني في قراءة التطورات السريعة للمشهد المصري الذي أظهر تفوقا في قدرات الحشد المدني السلمي لفريق الدولة المدنية المناهض للعسكرة في رابعة وامتداداتها، وهو تفوق نوعي وأفقي يكتسب حضوراً متزايداً لشرائح متنوعة خارج التصنيفات الإسلامية.

ولكن هذا التفوق -الذي عطل مشروع الانقلاب، وربما منح فرص الربيع العربي مساحة جديدة لمقاومة مشروع عربي إقليمي عنيف يستعد لحصده ودفنه كليا من تونس إلى سوريا- لم يصل حتى الآن إلى قاعدة انطلاق تحول دون زج الدولة القومية في مصر في أتون النسخة العسكرية الحمراء للانقلاب المدعومة بشراسة من القوى العلمانية في مصر.

ودون شك فإن هذا الاضطراب الضخم للانقلاب لم يكن ليحصل على الأرض لولا هذا القدر الكبير من التضحية والكفاح المدني السلمي الذي قدم مئات الشهداء والجرحى والمعاقين وسط حملة شتم وتخوين.

وكان المرجو من هذه الحملة أن تحسم ملفها الأمني الدموي بسرعة، لينتقل الملف السياسي والقانوني المنحاز إلى مدار التنفيذ لتعقب كل مساحة لثورة يناير/كانون الثاني، لا ثورة رابعة فحسب.

ولكن لم ينجز بعد على الأرض أي برنامج توافقي أو قسري لتعطيل أدوات المشروع القمعي للانقلاب والواجهة الدموية له، وإن تسبب في خسائر سياسية لمشروع الفريق السيسي وحلفائه.

فمن دعوة السيسي لإعطائه تفويض حسم عنيف، يتضح حجم هذا الانكسار في الانقلاب، حيث كانت كل القراءات تؤكد أن الفريق السيسي سيقود فض رابعة دمويا بالجهاز العسكري للجيش وليس الداخلية، فدور الداخلية مُكمل أمني للمشروع لا فاعل رئيسي له.

ولكن بعد مذبحة المنصة في رابعة حصل تغير دراماتيكي لم يُركز عليه الإعلام، فحالة الصمود التي رسخت في رابعة مع حضور التغطية الإعلامية التي كسرت حصار الانقلاب كانت أقوى من مذبحة الحرس الجمهوري، وانتهى الهجوم الابتدائي لقوات الداخلية، التي كان يفترض أن يغطيها السيسي بمفارز المغاوير العسكرية، إلى خسارة سياسية، حيث لم ينفض الاعتصام وسقطت أمام العالم نماذج مدنية جديدة تشهد بأن هذا السلاح والخرطوش وجه إلى صدور محتجين مدنيين عزل.

وليس المقصود من تأثير الصورة الدامية هو التأثر الوجداني لحلفاء الانقلاب فهذا حُضر له على الصعيد الإعلامي الضخم الذي يمتلكه نظام الرئيس مبارك والمدعوم إقليميا، لكن الدافع هو شعور الفريق السيسي أن قدرات الحسم الدموي ذات تكلفة عالية وغير مضمونة، والخشية من تأثيراتها على المنطقة وعلى مصالح الولايات المتحدة وهو الزناد الوحيد الذي يضغط عليه الأميركيون والأوروبيون.

كيف تضمن -أي الفريق السيسي- الحسم الدموي دون ارتدادات مخيفة. هنا انسحب الجيش من المواقع المحيطة وقيل حينها إن الداخلية هي من يقوم بالمهمة، ورغم أن هذا الأمر لم يُطرح سابقا بهذه الوضعية، ورغم حشد من الملفات لدى المعارضة العلمانية السابقة ضد الداخلية، إلا أن كل ذلك تبخر في أيام ما دام الخصم الذي سيواجهها هم الإسلاميون وخصوم الانقلاب.

هنا نفهم هذا الفصل الحيوي المهم وكيف انطلقت بعده أحاديث التسوية السياسية بقوة في حين أنها كانت مختفية، في هذه الأثناء برزت إلى السطح خلافات شرسة قادها ضلع نظام الرئيس محمد حسني مبارك الذي يمثل الضلع الثاني من حيث القوة في تحالف الانقلاب، ضد د. محمد البرادعي بعد حديثه عن الصفقة والحل السياسي.

واتضح مرة أخرى أن هناك اضطرابا واسعا بين أطراف التحالف، وإحباطا في برامجه الإعلامية الرئيسية، ولذلك حاولت حكومة الببلاوي جمع القوى العلمانية من جديد في اجتماع أكد دعم هذه القوى للحسم الأمني ضد رابعة بمشاركة من التيار الناصري بقيادة حمدين صباحي, مع ملاحظة انتهاء قصة تمثيل الإسلاميين في هذا التحالف حيث انسحب من هذه التوافقات حزب النور ومصر القوية.

وسواء كان خطاب حكومة الببلاوي وبيان القوى العلمانية المساندة له لفض الاعتصام دمويا، منهجا مختلفا رافضا للمصالحة الوطنية أم كان تكتيكا يقابل تصدع الموقف السياسي للفريق السيسي مع الغرب والوسطاء العرب والأفارقة، فكلتا الحالتين تشير إلى تصدع في هذا الانقلاب واضطراب الثقة بين أضلاعه.

وهو التصدع الذي ظهر فيه غياب كل التشكيلات التي أحدثها الانقلاب كمؤسسات سياسية، وعاتب فيه السيسي واشنطن مباشرة لعدم تواصلها معه كرجل مرحلة قادم، وهو ما أعطى دليلاً أفسد الصورة السياسية التي تحدث فيها الانقلاب عن مشروع شعبي.

وهنا نفهم انفتاح المشهد المصري على الوساطات آخذين بالاعتبار أنها جاءت بطلب من التحالف الحاكم وليس من المعارضة المدنية للانقلاب التي تقبع قياداتها في السجون.

وهناك خلطة عجيبة في هذه الوساطات غير مفهومة إلا ضمن سياق فشل الانقلاب وانكساره وتورطه في نسخته الأولى، وأن الرعاية الغربية والإقليمية العربية لا تبحث عن مخرج آمن لرابعة فقط بل عن مخرج للانقلاب ذاته.

إن طلب التحالف خاصة الفريق السيسي دخول الدوحة شريكا في الفريق التفاوضي بالتنسيق مع الدبلوماسية الأميركية، وترحيب أضلاع من التحالف بذلك رغم الهجوم الشرس على قطر منذ أيام الانقلاب الأولى، يؤكد أن فريق الانقلاب يبحث عن مخرج، حيث تمثل الدوحة عنصر حياد إيجابي مع رابعة.

علما بأن هذا الفريق الدبلوماسي الذي يعمل الآن -وقد ينتهي خلال ساعات من كتابة هذا المقال- ضم أقوى الداعمين وبإعلان رسمي وإعلامي متتال لتحالف الانقلاب وهي إمارة أبو ظبي.

وهذا الحضور لدعم الفريق السيسي والأضلاع السياسية في تحالفه مفهوم جدا من أبو ظبي وفقا لمواقفها الرسمية، لكن كيف تكون طرفا محايدا ووسيطا؟

لعل تفسير هذا الأمر هو قناعة واشنطن بضرورة وجود هذه الترويكا في دعم المخرج السياسي، والأمر الآخر أن هذا المخرج لو تم فإنه قد يكشف موقف المحور الخليجي الداعم للانقلاب والحسم الدموي، وهو ما قد يُبقي ارتدادات في وجدان قطاع من الشعب المصري المعارض للانقلاب فيفرض تبعات معنوية أو سياسية معه.

وإن كان موقف أبو ظبي -في مجمل سياساتها المعلنة رسميا- أنها ضد الإسلاميين في الوطن العربي، ولم تكن تبدي قلقاً حيال تصوير موقفها كمناهض للإسلاميين تدعم مواجهة صعودهم، فهل تغيرت قواعد اللعبة اليوم أمام المشهد المصري لعواقبه الخطيرة؟

في كل الأحوال الموقف المرصود هو أن الانقلاب على الأقل في نسخته الأولى ينكسر، لكن ذلك لا يعني مطلقا ضمان المعالجة السياسية السلمية للأزمة، فقد تستخدم هذه التحركات مستقبلا لتبرير مجازر نوعية، بحجة أن الطرف المقابل في رابعة لم يستجب للمساعي السياسية.

وهذا ما يفتح الباب مجددا للسؤال الكبير كيف تحصد رابعة حضورها الجماهيري الفدائي السلمي في الملف السياسي، وأمامها تحد صعب خاصة في ظل أي مشروع يسقط حق التقاضي لشهدائها في ظل مشاعر وجدانية ثائرة لطريقة مقتلهم وهو يحتجون سلميا.

لكن الملف الأهم هو أن ما دفعه أولئك الشهداء كوقاية من هيمنة الحكم العسكري المطلق، والحفاظ على حريات ثورة يناير/كانون الثاني 2011، وهوية الشعب العربي التي هُددت في مصر يُعد ضمن أكبر مسارات الشعوب لفداء أوطانها فتقر عينها بهم.

المدار الصعب اليوم يواجه خيارات دقيقة، فلو استمر الميدان مكشوف الظهر فهو يحمل مخاطرة كبيرة حتى مع تفوقه النوعي، في حين يبرز بقوة الخيار الآخر أمام رابعة، وهو كيف تتحول هذه المفاوضات إلى مدار يحمي مصر من المزيد من المذابح والمستقبل الدامي وكيف يختط التحالف الوطني الديمقراطي مساراً يحوّل هذا الانتصار الميداني إلى انتصار سياسي.

فيؤسس عبر هذا الخيار كفاحا مدنيا لاستكمال ثورة يناير/كانون الثاني بقيادة رابعة سياسياً وتكون الشرعية الدستورية جسر العبور المرحلي المؤقت نحو المدافعة السياسية الإستراتيجية لتحقيق مضامين الثورة والربيع المصري التي ثبت أنها تحتاج إلى وقت طويل في ظل الدولة العميقة المتنفذة.

وهذا المسار مسار دقيق ترقب فيه رابعة استمرار حملة القتل والاعتقال والتشويه، وهو ما يُضعف مصداقية الطرف الآخر كلياً.

بيد أن فشل الانقلاب السياسي، ودفع المحور الدولي له خشية على مصالحه لا على دماء المصريين قد يُشكّل مساراً تنتزع به رابعة ضمانات سياسية دستورية لكل الشعب، وحينها يكون هذا الانتصار التفاوضي مقدمة لمشروع تحالف أقوى يجمع كفاح الشباب وهذه الخبرة المدنية الثرية بسواعد تحالف سياسي يستكمل تحرير مشروع الربيع المصري.

زر الذهاب إلى الأعلى