ما اكتفى الأمين العام لحزب الله بتذكيرنا في خطابه الأخير بأنه شيعي إمامي اثنا عشري؛ بل إنه أضاف لذلك فضيلة أخرى عندما اعتبر أنه بوصفه كذلك (أي شيعي إمامي إثني عشري!) لن يتخلى عن المقدسات في فلسطين.
وكما في كل عام بمناسبة يوم القدس الذي اشترعه الخميني؛ فإن الأصوات علت من كل مكان في طهران والعراق ولبنان، في التزام بتحرير القدس وفلسطين. وحتى الرئيس الإيراني حسن روحاني تفاءل بزوال دولة إسرائيل كما كان يفعل نجاد، ثم جرى نفي أنه قال ذلك أو تمناه! بيد أن كل تصريحات الإيرانيين وأنصارهم بشأن فلسطين في جهة، وتصريحات نصر الله في جهة أخرى.
فهو يستميت في الرد على أولئك الذين اتهموه بالتخلي عن «المقاومة» بدليل قتاله في سوريا ضد الشعب السوري، والمقاتلون هناك هم أولئك الذين أعدوا عبر عقدين وأكثر لقتال إسرائيل وقاتلوها بالفعل في وقعات كان آخرها في عام 2006! لكن هناك من يمضي لأبعد من ذلك، ويعتبر أن المقاومة ما انتهت مفاعيلها بالقتال في الداخل اللبناني وفي سوريا؛ بل قبل ذلك عندما وافق حزب الله على القرار الدولي رقم 1701؛ إذ كيف سيهاجم الحزب إسرائيل، وعلى الحدود 15 ألف جندي دولي من عدة جنسيات هم المولجون بالدفاع عن وقف إطلاق النار بين البلدين. ولو أن حزب الله تجاوز الخط الأخضر بصواريخه أو آلياته؛ فإن ذلك سيثير أزمة دولية، ويؤدي إلى حرب يقف فيها الدوليون مع إسرائيل باعتبارها معتدى عليها!
قال لنا حسن نصر الله ولجمهوره إنه داخل للقتال في سوريا ضد التكفيريين ولحماية «المقامات الشيعية المقدسة»! لكنه قال لنائب وزير الخارجية الروسي إنه ذهب للقتال منعا لسقوط دمشق وانهيار حكم الأسد.
وصحيح أنه تدخل بقوة بعد صورة شهيرة له مع خامنئي مما يعني أنه زار طهران ونسق معها؛ لكن الأمر أكثر من ذلك بكثير. فطهران تعتبر العراق وسوريا ولبنان وغزة مناطق نفوذ لها ومتنفسا وأوراق مساومة في صراعها مع الغرب والمجتمع الدولي. وكما هدد مصالحها ومناطق نفوذها الثوران العربي السني بالعراق طوال سني الغزو الأميركي وبعده؛ فإن الثورة السورية البادئة عام 2011 هددتها بتقويض النفوذ والخسارة ليس في سوريا وحسب؛ بل وفي لبنان والعراق وفلسطين.
ولذلك فقد نصحت الأسد بالتعامل مع المتذمرين السلميين، مثلما تعاملت هي مع الحركة الخضراء عام 2009، أي إطلاق النار على كل من يجرؤ على الخروج إلى الشارع. وعندما تبين للإيرانيين (والروس) أن الأسد ما عاد قادرا رغم استخدام الباليستي والكيماوي؛ تدخلوا بالسلاح والعسكر بعد المال والخبراء.
والواضح أنهم بذلوا جهدا لكي لا يطلبوا من نصر الله التدخل، لكنهم قرروا تحت وطأة إلحاح الجنرال سليماني أن على نصر الله التدخل في حمص وريف دمشق. ثم تبين لهم أن هناك قرى شيعية في ريف حلب فتدخلوا هناك أيضا!
كانت المحنة لدى الإيرانيين كيف يبررون لجمهورهم الشيعي العربي والإيراني التدخل للقتال في سوريا. ثم كيف يشرحون ذلك للعرب والمسلمين. وكان الإحراج على نصر الله أكبر، فخامنئي بعيد وحساباته مختلفة. وكان الحل الكذب على الجهتين: كذبوا على الشيعة بأنهم ذاهبون للدفاع عن مزارات أهل البيت، ثم عن عشرات ألوف الشيعة الموجودين بسوريا. وكذبوا على العرب القوميين والليبراليين والقابضات منهم فلوسا والقابضين (وهؤلاء لا يحتاجون لإقناع كثير!) بأنهم إنما يدافعون عن جبهة الممانعة التي بنوها مع الرئيس الأسد، والتي ستعود لتحرير فلسطين فورا بعد القضاء على الإرهابيين من عملاء أميركا وإسرائيل. ولا ينبغي أن نستغرب هدوء ردود الفعل الدولية على التدخل القاتل؛ فإن الأميركيين والأوروبيين شديدو التخوف من التطرف والإرهاب، ويمكن أن يسكتوا على حزب الله إذا كان يقاتل الإرهابيين في سوريا.
وعندما اعتبروا الجناح العسكري للحزب إرهابيا في المدة الأخيرة بعد تردد طويل، سارعوا إلى التقليل من شأن ذاك القرار، وهم على أي حال ما ذكروا بين أسباب القرار تدخل حزب الله في سوريا!
منذ الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000، بدأ التململ من الوجود السوري ومن سلاح حزب الله. والمعروف أنه في عام 2004 صار هذا التململ قرارا دوليا رقمه 1559. وبذلك فقد تصاعدت الخشية من جانب الإيرانيين والسوريين على فقد الملاذ الآمن والمرفه في لبنان؛ فقرروا المضي إلى القتل فورا، وهذا معنى قولي إن الحزب كان تنظيما للقتل المستهدف ثم صار تنظيما للقتل العشوائي.
فقتل الرئيس الحريري كان قتلا مستهدفا، رجوا من ورائه أن تخمد المعارضة للوجود السوري باغتيال رئيسها. إنما يبدو أنه ومنذ منتصف التسعينات؛ فإن حزب الله كان هو الذي ينفذ العمليات التي يجري الاتفاق عليها مع النظام السوري.
ومنذ عام 2005 وحتى اليوم نشب ذلك النزاع بين حزب الله وحلفائه في سوريا ولبنان، وبين قوى (14 آذار) المتحالفة على أثر استشهاد الرئيس الحريري. وبالوسع القول إنه بعد احتلال حماس لقطاع غزة عام 2007، واحتلال حزب الله لبيروت عام 2008 (في سياق تحوله إلى تنظيم للعشوائيات)؛ فإن مدنيي وديمقراطيي الشعوب العربية غير المسلحين في فلسطين وسوريا ولبنان والعراق، تركوا لإرهاب وقمع الجيوش والتنظيمات المسلحة العاملة مع إيران أو عندها.
ولذلك فبعد احتلال بيروت وتشكيل حكومة مشتركة لم تعمر، جرت انتخابات عام 2009 التي فازت فيها قوى (14 آذار) للمرة الثانية، دون أن يعني ذلك الشيء الكثير. فقد أسقطت حكومة سعد الحريري المنتخبة، وطوال السنوات الثلاث الماضية حكم حزب الله وأنصاره لبنان بحكومة من لون واحد، أكلت اللحم وكسرت العظم، وكانت آخر مآثرها مقتل اللواء وسام الحسن، الضابط البارز في قوى الأمن الداخلي!
إن الذي أريد التوصل إليه أن شعوب البلدان الأربعة قاومت وتقاوم الاستيلاء الإرهابي والتقسيمي الإيراني في ظروف شديدة الصعوبة. وقد بلغت هذه المقاومة ذروة غير مسبوقة بالثورة السورية. وإيران تعتبر الساحات الأربع ساحة واحدة وتتصرف معها مباشرة أو بالواسطة بالعنف القاتل. بل وتمتد بركاتها إلى سيناء بمصر.
أما جهات التصدي والمقاومة في البلدان الأربعة فما نجحت في توحيد قواها في وجه الطغيان والاستيلاء والفساد، بسبب تداخل الصراعات والاختراقات الكبيرة. فالولايات المتحدة كانت قد هادنت إيران (والأسد وحزب الله) عام 2009 / 2010 في لبنان وسوريا والعراق وفلسطين. فطوال السنوات الماضية كانت السفيرة الأميركية ببيروت أكبر أنصار حكومة حزب الله عندنا، وكذلك السفراء الأوروبيون.
ويضاف إلى هذا «التداخل» تداخل آخر هو أن المتطرفين والإرهابيين هم حلفاء عمليون لبشار الأسد ولإيران وربما للمالكي. ويبدو أن الظواهري موجود بإيران. ثم إن الدوليين وبعض العرب لا يخشون الإرهاب المتظهرن والمتأيرن فقط؛ بل يخشون أيضا أن لا يكون التعامل مع الحكومات الجديدة في سهولة التعامل مع الأسد ونصر الله الليبراليين العلمانيين الإسلاميين المتنورين!
خرج أمين عام الحزب عن طوره بالإعلان أنه شيعي ومع ذلك فهو ملتزم بفلسطين، رغم قتاله في سوريا! والحق أنه لا التزام هنا أو هناك أو هنالك، بل هو التزام واحد لا يجهله أحد وقد قال السيد المسيح لمارثا: تسألين عن أشياء كثيرة والمطلوب واحد!