ما عاد بإمكان الغرب الاعتماد على قيادة الولايات المتحدة في العالم، فخلال ما تبقى من عهد إدارة أوباما، لا يمكننا الوثوق بصواب حكم واشنطن في مجال السياسة الخارجية، ولا شك أن ظهور القوة العظمى الوحيدة المتبقية كدولة ضعيفة وغير فاعلة بقدر الولايات المتحدة خلال الأيام الأخيرة يعد تطوراً بالغ الأهمية. لكن هذا ما يحدث فعلاً، فقد استندت استراتيجية الرئيس الأميركي العالمية خلال ولايته الثانية على ركيزتين بارزتين: أولاً، يحاول تنظيم القاعدة "الفرار"، بعد أن تعرض لضربات قوية مع مقتل أسامة بن لادن ونجاح عمليات الطائرات بدون طيار في باكستان: فقد أدلى أوباما في شهر مايو بخطاب نصر أعلن فيه أن الحرب على الإرهاب انتهت رسمياً.
لكن الوضع اليوم يختلف عمّا كان عليه حينذاك، فخلال الأسبوع الماضي، أقفلت 19 سفارة أميركية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أبوابها طوال أسبوع، كذلك أُجلي الطاقم الدبلوماسي في اليمن بسبب "تهديدات إرهابية محددة". إذن، ماذا يعني "الفرار" بالتحديد؟ عندما أشار البعض إلى هذا التناقض الواضح بين هذا التعليق الكبير للوجود الأميركي وخطاب "نهاية الحرب على الإرهاب"، أوضح متحدث باسم البيت الأبيض (كما يفضل المتحدثون باسم الحكومات القول) ما ذكره الرئيس بالتحديد: أنزلنا هزيمة شبه كاملة بتنظيم "القاعدة" في باكستان وأفغانستان، لا بفروعه في اليمن، التي ما زالت حية وناشطة.
ولكن تلا هذا التوضيح إجلاء الطاقم الدبلوماسي من لاهور في باكستان بسبب تهديد إرهابي محدد، ففي تعليقه الأخير، أعاد أوباما صياغة تقليله من شأن القوى الإسلامية: لربما لم يبدأ تنظيم القاعدة "بالفرار"، إلا أنه "رُد على أعقابه" (فهل يعني ذلك أنه لا يزال يواجهنا ويستطيع القتال؟). وما يزيد من حيرتنا واقع أن أوباما يبدو مصمماً على إعادة بعض سجناء غوانتنامو إلى اليمن، حيث سينضمون على الأرجح إلى خليط بالغ الخطورة من الإرهابيين المجاهدين.
يبقى السؤال: هل ما زالت الولايات المتحدة "في حالة حرب" ضد الجهاد العالمي أم لا؟ تشن الولايات المتحدة اليوم هجمات بواسطة طائرات بدون طيار في دولة اليمن، التي أعلنت حكومتها مراراً النصر على فرع "القاعدة" المحلي. فما دور الولايات المتحدة في كل ذلك، إن لم نكن نخوض اليوم "حربا دولية على الإرهاب"؟ عندما ترشح باراك أوباما للرئاسة، التزم بخوض الحرب في أفغانستان (لا العراق)، ورفض استبعاد احتمال غزو باكستان، ولكن هل يملك اليوم أهدافاً واضحة متماسكة أم أن البيت الأبيض يكتفي بالتفاعل مع التطورات الحاصلة؟
تشمل الركيزة الثانية في خطة أوباما العالمية ضرورة "إعادة ضبط" العلاقات الأميركية المتوترة مع روسيا، ما يزيل إحدى العقبات أمام محاولات الغرب التعاطي مع سورية وإيران، ولكن في الأسبوع الماضي، أخفقت عملية إعادة الضبط هذه إخفاقاً ذريعاً، مطيحة بكل المساعي في هذا المجال. فقد قرر البيت الأبيض إلغاء لقاء أوباما-بوتين، الذي كان مقرراً عقده على هامش قمة مجموعة العشرين. واعتُبر هذا القرار "تجاهلاً" للرئيس الروسي، الذي لم يكن متعاوناً البتة في مسألة إدوارد سنودن.
ولكن يبدو هذا "التجاهل" محاولة لإنقاذ ماء الوجه، إذ عبر أحد المعلقين المقربين من إدارة أوباما عن هذا الواقع بصراحة، ذاكراً: "تشير الحسابات... إلى أن الذهاب إلى موسكو ما كان سيعود بالفائدة على أجندة الرئيس، بل كان سيكبده ثمناً باهظاً نتيجة مسألتَي سنودن وحقوق الإنسان في روسيا".
بكلمات أخرى، كان أوباما سيخرج من اجتماعه مع الرئيس الروسي وهو مضطر إلى الإقرار أنه لم يحقق أي مكاسب من تعامله مع بوتين العنيد؛ لذلك قرر الإقدام على خطوة "التجاهل" هذه ومحاولة إظهارها كما لو أنها إذلال دولي تتعرض له روسيا. إلا أن هذه الخطوة كشفت أن روسيا أججت، على ما يبدو، غضب الولايات المتحدة بسبب مسألة سنودن، وهذا إذا افترضنا أن البيت الأبيض صادق في تصريحاته بشأن سنودن. لنفترض لبعض الوقت أن الحقائق مختلفة عن الظاهر في الدبلوماسية الخارجية. فهل تود الإدارة الأميركية حقا إعادة سنودن إلى الولايات المتحدة لتحاكمه بتهمة التجسس والخيانة؟
تكشف استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة أن أغلبية الناخبين قلقون حيال مراقبة وكالة الأمن القومي، ويبدون مستعدين لاعتبار أن سنودن نبه الشعب لانتهاكات الحكومة وأنه أسدى خدمة وطنية للأمة، وتمتد وجهة النظر المتمردة هذه إلى الكونغرس، حيث قارن سياسيان من انتماءات مختلفة (عضو الكونغرس الليبرالي الديمقراطي جون لويس والسيناتور الجمهوري راند بول) سنودن بمارتن لوثر كينغ، الذي يُعتبر في الثقافة السياسية الأميركية رمزا لا نظير له. لعل هذا السبب الذي دفع بالرئيس إلى بذل قصارى جهده خلال مؤتمره الصحافي الأخير للتأكيد ألا أحد يسيء استغلال برنامج وكالة الأمن القومي للمراقبة، وأنه ما زال رغم ذلك مصراً على إصلاحه.
إذن، في حال أُعيد سنودن، الذي برهن عن بلاغة عالية في الكلام، إلى الولايات المتحدة وحوكم، فهل يمكن، إن حظي بمحامي دفاع بارعين، أن يثير جدالاً وطنياً ضخماً بشأن المراقبة وجمع البيانات، ما يسبب مشاكل كبيرة للإدارة؟ أمن الممكن أن أجهزة الأمن الأميركية تنصح البيت الأبيض سراً ألا يسعى جاهداً لاستعادة سنودن؟ لا شك أن تصوير أوباما بوتين كما لو أنه "الولد الضجر الجالس في آخر الصف" كان مناورة لتفادي الضرر الذي ألحقه هذا الرئيس الروسي المشاغب بمكانة الولايات المتحدة.
لكن القليل من الإحراج الدولي أفضل من انهيار كامل البرنامج الاستخباراتي، ونظراً إلى الشفافية الأميركية المتبعة، سيُضطر البيت الأبيض إلى الإجابة عن عدد كبير من الأسئلة الغربية بشأن قدرة الحكومة الفدرالية الراهنة على الاطلاع على الاتصالات الإلكترونية "الخاصة" لأي مواطن. في مطلق الأحوال، لن يكون لإلغاء اجتماع الرئيسين، الذي حظي بتغطية إعلامية مكثفة، تأثير كبير، فوزراء الخارجية والدفاع في الولايات المتحدة وروسيا يلتقون في واشنطن، كما هو مخطط، وبكل هدوء، كما لو أن شيئاً لم يكن. إذن، ما الخطوات الرئاسية في كلا الطرفين إلا مناورات في مجال العلاقات العامة.
ولكن بالنسبة إلى سائر دول العالم الحر أو الغرب، كما يُعرف اليوم (بما فيه الجزء الأكبر من أوروبا الشرقية)، يُعتبر هذا مقلقاً جداً. فتبدو الحكومة الأميركية عاجزة التصرف بطريقة حاسمة ومتماسكة، قولاً وعملاً، في مرحلة بالغة الخطورة، فقد اتهم أوباما بوتين بأنه ما زال متمسكا بعقلية الحرب الباردة، ولا شك أن هذا اتهام مثير للقلق، بما أننا نعلم جميعنا أن الرئيس الروسي هو في الجوهر رجل مستبد كان ينتمي إلى الاستخبارات السوفياتية.
ولكن لا بد من أن هذه المسألة أثارت بعض الشك، حتى في أوروبا حيث تحظى رئاسة أوباما بقبول واسع على نحو غريب، بأن الولايات المتحدة بدأت هي أيضا بالابتعاد عن مسار ما بعد الحرب الباردة: فما عادت تملك مفهوماً واضحاً عن دورها العالمي، ويبدو أوباما، الذي يتكلم باستمرار عن آماله للمستقبل، غير عابئ بالمطالب الجديدة التي قد يفرضها هذا الابتعاد على بلده.