آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

خواطر شاب «إخواني» غاضب نجا من فض اعتصام رابعة

أمامي صورة حبيبة أحمد عبدالعزيز، شابة طموحة كان ثمة مستقبل كبير أمامها، إذ عُرفت كصحافية جادة مبكراً، تجيد العمل بالعربية والإنكليزية، ولكن كل ذلك انتهى صباح الأربعاء الماضي بعدما أردتها رصاصة قتيلة على أحد مداخل ميدان رابعة العدوية.

ثمة صورة مؤثرة انتشرت عبر وسائط الإعلام الاجتماعي، يتردد أنها صورتها الأخيرة، ابحث عنها قبل أن تكمل قراءة المقالة وضعها أمامك. الصورة لوحة معبّرة لمناضلة مؤمنة، تجلس بثبات ومن حولها دمار وتخريب، الغاز المسيل للدموع يحيط بها، مضى كل الرجال وهي ثابتة في مكانها تؤدي ما طلب منها، تحمل في يمناها طبقاً نحاسياً تقرع به برميلاً حديدياً، زادها قنينة ماء، حجاب سابغ يلفها وعلى وجهها قناع يحميها من الغاز، ولكن لم يحمها من الرصاصة التي سرقت حياتها وهي لا تزال زهرة. من الذي أطلق الرصاصة؟ لا يهم، في الغالب إنه شرطي مصري أو قناص يطلق رصاصة بندقيته من أعلى مبنى مجاور وهو يضحك نحو «الشعب المصري الآخر» الذي يكرهه ويراه العدو.

ولكني لن أسترسل في لوم الجيش وأمن الدولة والشرطة، فهم من هم، يؤدون مثل بقية نظرائهم العرب ما يحسنون فعله وما تدربوا عليه لعقود، حماية النظام والدولة. يجب أن تبقى الدولة مهما كلف الأمر. هكذا يضخ الإعلام المصري رسالته بعدما عاد إلى «حالة» 6 حزيران (يونيو) 1967، النظام، الدولة، الزعيم.. ولا حرية أو حتى كرامة لأعداء الحرية، وإن كان مواطناً وابن عم أو زميل دراسة.

ولكني ألوم، بل أدعو لمحاسبة قادة «الإخوان المسلمين» الذين صنعوا وَهْمَ الصمود في اعتصام رابعة والنهضة، كأداة للضغط السياسي، وأداروه باستخفاف بدماء المؤمنين بالقضية. الشهادة واجبة للدفاع عن الحق، ولكن ليس لتسجيل نقاط للتفاوض القادم والمكسب السياسي. وعدوا حبيبة وآلافاً غيرها ممن قضوا عبثاً بنصر كامل في اليوم التالي. النصر ساعة صبر، هكذا وعدوهم ووزعوا عليهم المهمات، أنت تبني الساتر الترابي، أنت تأتي بالخل والماء لعلاج إصابات القنابل المسيلة للدموع، وأنتِ يا حبيبة تحذرين إخوانك بالقرع على هذا البرميل النحاسي.

طفل في العاشرة، كان يعلم أن اقتحاماً سيحصل، وأن ضحايا بالمئات سيسقطون، كان يكفيه أن يمضي ساعة يتابع فيها البرامج الحوارية على الفضائيات المصرية، الرسمية منها و «المستقلة» والتي اجتمعت على كلمة رجل واحد، تحذّر من الإرهاب والإرهابيين، الجميع يعرف بما في ذلك طفل العاشرة أن الإرهابي يُقتل، إذاً ما حصل صبيحة الأربعاء الأسود الماضي لم يكن مفاجأة. لا ينبغي أن يخرج قيادي في «الإخوان» يتهم الجيش والشرطة بالغدر. لقد أخبروك بنيتهم في تحقيق انتصار حاسم، كم مرة قلت «يجب ألا يجرونا إلى الساحة التي يجيدونها وهي العنف»؟ لقد جروك إلى العنف وانتصروا عليك بعدما تخليت عن ورقتك الأقوى، المطالبة والمغالبة والسياسة.

ستعمد الجماعة إلى استعراض قتلاها، آلاف الصور لشبان وشابات بعمر الزهور، شيوخ على محياهم التقوى وسيدات محجبات، من أجل كسب معركة الرأي العام والخروج بمظهر الضحية، ولكنها معركة خاسرة، فدماؤهم لن تحرك أحداً غير شجب لفظي ونشيج مكتوم في ليلة ظلماء لمن فقد حبيباً. لقد انتهت ثورة 25 يناير، وسقطت أهم قيمها الحرية والكرامة وحق الإنسان في الحياة. لم تعد الغالبية تضيق بانتهاك الحريات طالما أنها ليست حرياتها. لم يعد منظر الشهداء يضيرها، طالما أن الشهيد من المعسكر الآخر، ولكن ثمة فائدة أخرى من استعراض صور القتلى، هي المحاسبة، محاسبة الجيش والأمن هروباً من المسؤولية، إنما محاسبة الذات، يجب أن يكون من بين جيل رابعة، شاب شجاع يصرخ: لا نريد تهنئة بالشهادة ولو خطبة عن عرسان يرتقون للجنان، فالمعركة كانت عبثية، وكان يمكن تلافيها.

ليقف أحدهم ويكتب على لوحة ماذا خسرت الجماعة بعدما دانت لها مصر، وفوّضها أهلها خلال عام ونيف؟ خسرت السلطة التي تراها تكليفاً إلهياً بالنهوض بالمجتمع والأمة، خسرت شريحة هائلة من المجتمع المصري، خسرت توجهها الوطني وفقهها المعتدل لصالح فقه ضيق بات إرضاؤه هدفها بعدما أصابها شَرَهُ كسب الأصوات الانتخابية، خسرت شهداء، خسرت حلفاءها في الثورة، خسرت علاقاتها الإقليمية. سيقول قائل، ولكنها مؤامرات تكالبت علينا، ليرد عليه الشاب الغاضب، لا يعفيكم هذا من المسؤولية، أين حكمتكم وحسن تدبيركم؟

أتوقع أن ثمة من عاد إلى بيته مساء الأربعاء الماضي، منهكاً، مثخناً بالجراح، رأى القتل وعاشه، يبكي على إخوة قتلوا بين يديه، يقلّب في مواقع الاتصال الاجتماعي ليطمئن على آخرين، يحاول أن ينام ولكن كوابيس تلاحقه، تطارده صورة حبيبة وهي تطرق بيدها على البرميل لتحذره ولكنه يجري بعيداً عنها، بينما تثبت هي مكانها، يستيقظ على الدم يشوّه وجهها الجميل، العرق يتصبب منه، طرقات على الباب ترعبه، لقد أصبح مطارداً، لا يريد العودة إلى الحياة السرية، لا يريد العنف، ولكنه يعلم أن القيادة فقدت السيطرة أو تكاد، لا أحد يستطيع التحكم في الغضب فما جرى في رابعة كان وحشياً، ولكننا أصحاب مشروع، يخاطب نفسه، نحن لا نريد السلطة، ولا مكاسبها، هكذا تعلمنا وتربينا، يفتح التلفزيون ليجد أحد القادة يبرر إحراق الكنائس بأنه ناتج من حالة الغضب. يصرخ فيه، بل قل إننا نرفض إحراق الكنائس، توقف عن التكسب بأفعال لا تعلم من يرتكبها، مسلم غاضب، أم وحدة سرية خبيثة تابعة للأمن!

يسمع القيادي يتحدث عن عودة نظام مبارك، يتساءل الشاب بغضب وسخرية وقد طار النوم من عينيه «ألم تدرك ذلك يوم رفض الأمن حماية الرئيس في قصر الاتحادية حتى أتى المتظاهرون بونش يقلعون بابه؟».

يرمي نفسه على الكنبة الرثة، ويغمض عينيه مستمتعاً بأذان فجر حزين، يردد، الثورة لم تنتهِ، لا تزال هناك سعة طالما أن آلية الاحتكام للشعب قائمة، ستكون هناك انتخابات قادمة، لن نسمح لها بالتزوير، لا بد من جمع صف الإسلام السياسي مع القوى الثورية التي ضاعت وتشتت، لا بد من جيل جديد يقود ويتصدر المشهد ينتمي إلى اليوم وليس للماضي... ولكن لا بد من المحاسبة أولاً، محاسبة من فشل وخسر معركة الحكم ثم معركة الاعتصام، نعم هذه قاعدة عملية مفيدة لأي حركة تريد أن تنتصر. من يفشل يُبعد من القيادة.

* كاتب وإعلامي سعودي

زر الذهاب إلى الأعلى