أرشيف الرأي

متاهة الربيع العربي.. البحث عن هوية

ربما ليس مصادفةً تشابُه مألات الربيع العربي في أكثر من دولة عربية فبغض النظر عن ‏البحث عن أسباب التعثر، ونظرية التأمر فأقرب المفاهيم هي أن الشعوب العربية ليست مؤهلة ‏لتغيير سريع ومفترض بعد خنوعها عقود بل وقرون للاستبداد فلا تزال القابلية للاستبداد ‏والقهر للظلم الداخلي والانبهار بالخارجي على انه قدوة فالخروج من تلك الرؤية والاستعداد ‏للتغير ستكون لاشك عملية عسيرة وطويلة الأمد.. ‏

‏ وهذا ما حدث بعد الإطاحة بالأنظمة الملكية في منتصف القرن الماضي في أكثر من بلد ‏عربي حينها لم يكن حاملي لواء التغيير يحملون مشروعا نهضوياً جاداً ومتفق عليه بل كان ‏بداية لصراع وتسابق على السلطة ومنها بدأت سلسلة الانقلابات في أكثر من بلد عربي، ومن ‏هنا فقد غدت تلك البلدان مرتعا لتجاذُبات سياسية وطائفية مقيتة بعكس ما كان مؤملاً عشية ‏ثوراتها، وهذا يفسر مدى قابلية العقلية العربية لمثل هذه الأنظمة بل وحتى في ارقي الأمم، ولا ‏ينطوي ذلك على الممالك العربية الثرية بل الأخرى كالأردن والمغرب فالأولى مستقرة ويعيش ‏مواطنيها في انسجام نسبي والحد الأدنى من رغد العيش والاستثمارات وشهدت تحولات ‏ملموسة مقارنة بجارتها العراق التي تسبح فوق بحيرة من النفط، وهى ليست مستقرة لعقود، ‏وهو الأمر نفسه في حال مقارنة المغرب مع الجزائر أو ليبيا، فجمهوريات العسكر العربية ‏استهوت النخب العسكرية إقحام نفسها بالسياسة وبمجرد أفول تلك الأنظمة الشمولية لم تستطع ‏شعوبها استيعاب الصدمة ولملمة الأمور ودخلت في متاهات أبرزها تداخل الديني بالسياسي ‏بصورة فجة دون التأمل في مضمون أفكارها، ولاشك بأن قوى غربية تستفيد من عواطف ‏الجماهير العربية فتدخل من بوابة الاستحقاقات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو حق أريد به ‏باطل .‏

ومعلوما بأن مصطلح الإسلام السياسي هو غربي وأمريكي تحديدا ظهر عند انبلاج الثورة ‏الإيرانية نهاية السبعينيات وزاد حدة وظهورا بعد عقد آخر عند أفول الحرب الباردة وأفول ‏نظام ثنائي القطبية وتحوله لأحادي القطبية وغدت أمريكا القطب الأوحد فاستفردت بقيادة العالم ‏حينها دخلت المنطقة العربية والإسلامية عموما في مواجهة مفتعلة بين ما سُمي بالإسلام ‏السياسي وصراعه المصطنع مع الغرب تزامن ذلك مع مصطلح «الأسلأمفوبيا»، وحسب ‏تقرير (مجموعة الأزمات الدولية) صنفت اتجاهات الحركات الإسلامية إلى ثلاثة تيارات هي: ‏التوجه «الإسلام السياسي»، التوجه التبشيري « الدعوي»، التوجه « الجهادي»، فقد تعاملت ‏الدوائر الغربية مع التيار الأول باعتباره يسعى للسلطة بوسائل ديمقراطية، وهذا سر التعاطي ‏المرِن مع القيادة المطاح بِها في مصر، بينما تعطي التيار الثاني ذات التوجه الإرشادي ‏الدعوي بتحفظ وكياسة، أما التيار الثالث الجهادي فهو الذي يشكل خطرا للغرب والشرق ‏والأنظمة العربية على حد سوا! ‏

‏ وفي حال حضر بلد ما أسموه الإسلاميين فلذلك خطورته فقد تستغل احد تلك الفروع ‏المتطرفة في تنفيذ مخططات ليلقى اللوم على طرف آخر وفي أفضل الأحوال ضد مجهول ‏ويصبح الكل يحارب الكل كما حدث في الجزائر ف مطلع التسعينيات، ومن هنا لامناص ‏للأمة من البحث عن صيغة فكرية للحكم بعيدة عن الرداء الإسلامي وليس بالضرورة محاكاة ‏علمانية الغرب بقدر مايُراد إصلاح حال الأمة بعد تاهت هويتها، فربما غير العرب افلحوا في ‏ذلك كتجربة حزب العدالة في تركيا وماليزيا واندونيسيا وحتى إيران والتي لها خصوصيتها، ‏وقد كان حلم الرعيل الأول لعصر النهضة هو إصلاح الأمة بالتوجه التربوي لإنتاج جيل جديد ‏وليس فرض توجه فئة مهما كانت قومية إسلامية ما لم يتم تهيئة جيل لتقبل قيم جديدة ومن هنا ‏لقد كان الإمام محمد عبده محقا في فكرته المخالفة لأستاذه جمال الدين فبينما كان الأول يرى ‏بالتغيير الثوري العنيف عن طريق القوة كان الإمام محمد عبده يرى بالتغيير عن طريق التعليم ‏والإرشاد وتثقيف الأمة تدريجيا وحينها سيولد التغيير ولو بعد جيل أو أكثر ومن هنا يتطلب ‏من دعاة التغيير وثورات الربيع العربي أن يعملوا على تواجد المثقفين والمفكرين وعلماء ‏الدين المستنيرين في مقدَمة الصفوف ليحموا ثوراتهم من هرطقات بعض الإعلاميين وعلماء ‏الدين المتزمتين وكتاب السلاطين . ذلك أن أحد أهم أسباب الفشل في أنظمة الحكم الانتقالية لما ‏بعد ثورات وحراك الربيع العربي كان غياب الفكر والثقافة والروح السامية والقيم الضَابطة ‏للسياسة وجموحاتها.‏

لعل من فضائل الهرج والمرج الذي رافق تداعيات ثورات ما عرف بالربيع العربي هو ‏فضح دعاة الديمقراطية والليبرالية وتلك القيم التي طالما تغنوا بها حينا من الدهر فبعد فيض ‏من المقالات والتنظير سوا ممن يدعون اليسار واليمين وأصحاب الاتجاهات القومية وصولا ‏للأحزاب التي تدعي نفسها إسلامية وبكل اتجاهاتها وانطلاقاتها المذهبية، كل ذلك يلخص بأنه ‏ليس فقط السعي للسلطة بل وإقصاء الآخر وهذا يتناقض مع قيم افتراضية يدعونها !‏

ففي الوقت الذي يرى مفاهيم العلمانية والديمقراطية واللبرالية فأكثرهم ليس فقط لا يعملون ‏بمضامينها بغض النظر اختلاف البعض عن تقبلها أساساً وشيطنة تلك المفاهيم بقدر التشدق ‏ببريقها دون العمل بروح تلك القيم، تماما كأغلب النظريات والاتجاهات القومية وحتى الدين ‏نفسه فكم من متشدق بالإسلام وفي سلوكه يناقض ذلك وهو الأمر نفسه في مثل تلك المفاهيم ‏والقيم التي لم تفرزها المجتمعات الغربية إلا بعد مراحل وتطور مجتمعاتها حينا من الدهر.‏

أفرزت حالات الربيع العربي الثقافية جيلا من الواهمين بالديمقراطية حتى خيل للبعض ‏بأنهم يحيون أفكار ابن رشد وجان جاك روسو فإذا بهم مجرد منتفعين يتقوقعون داخل مفاهيم ‏طائفية ضيقة، وينسحب نفاق القيم لدى بعض النخب سواء في محاكاة قيماً إسلامية تنويرية ‏وهى منها براء وكذلك من يدعي الليبرالية وحتى العلمانية وهم في سلوكهم سواء توصلوا ‏للسلطة أو حتى قبلها خلاف ذلك جملة وتفصيلاً!‏

زر الذهاب إلى الأعلى