آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

مَن يعتذر من مَن في اليمن؟

أن توجه الحكومة اليمنية اعتذارا رسميا إلى ابناء المحافظات الجنوبية و إلى ابناء محافظة صعدة الشمالية، دليل على وجود رغبة في الذهاب إلى النهاية في المصالحة الوطنية. كذلك، يشير ذلك إلى طموح لدى الحكومة بخروج مؤتمر الحوار الوطني المنعقد حاليا في صنعاء بنتائج ملموسة تساعد في التأسيس لمرحلة جديدة.

هل تكفي النيّات وحدها، مهما كانت صافية، في نقل اليمن إلى مكان آخر؟
كان الرد على الاعتذار من اطراف جنوبية معيّنة، تصرّ على الانفصال، سلبيا إلى حدّ كبير، في حين اتخذ الحوثيون الذين يسيطرون عمليا على صعدة ومناطق اخرى في محاذاتها موقفا ايجابيا. هناك هدف واضح لدى الحوثيين يتمثل في البناء على الاعتذار والانطلاق في اتجاه اكتساب شرعية تسمح لهم بأن يكونوا شركاء في السلطة في المستقبل. انها من دون شكّ سياسة ذكية يعتمدها طرف لديه مشروعه عرف كيف يستغلّ الموقع الجغرافي المميّز لصعدة، كما عرف كيف يلعب على كلّ التناقضات، بما في ذلك التناقضات المذهبية، والتمدد في كلّ الاتجاهات وصولا إلى صنعاء.

تكمن مشكلة الاطراف الجنوبية التي سارعت إلى رفض الاعتذار من منطلق أنّ نصّ الاعتذار ليس كافيا ولم يحمّل مسؤولية حرب صيف 1994 لنظام الرئيس علي عبدالله وحده، في رفضها الاعتراف بأنّ ليس في الامكان اعادة عقارب الساعة إلى خلف.
نعم، كانت هناك دولة جنوبية كاملة السيادة. لكنّ هذه الدولة لم تحسن المحافظة على نفسها بسبب تركيبتها الداخلية. ليست الوحدة التي تحققت في العام 1990 وراء انهيار دولة الجنوب. هذه الدولة انهارت اساسا قبل الوحدة. الوحدة كانت مؤشرا إلى الانهيار النهائي لما كان يسمّى "جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية" التي لم تكن لا ديموقراطية ولا شعبية، بل كانت دولة تعيش بفضل المساعدات السوفياتية عندما كان هناك شيء اسمه الاتحاد السوفياتي.

كان الاتحاد السوفياتي يسعى إلى موطئ قدم في شبه الجزيرة العربية عندما كانت الحرب الباردة هي التي تتحكّم بتصرفات الدول الكبرى. فاليمن الجنوبي الذي لديه حدود مشتركة مع المملكة العربية السعودية وسلطنة عُمان، استقلّ في العام 1967، لكنه انتهى عمليا في مطلع العام 1986 . انتهى عمليا يوم الثالث عشر من كانون الثاني- يناير عندما اندلعت حرب بين اطراف الحزب الحاكم (الحزب الاشتراكي) على خلفية مناطقية وقبلية. كانت حربا أهلية بالفعل توجّت مسلسل الصراعات الداخلية الذي لم يعد الاتحاد السوفياتي قادرا على احتوائه بسبب حال الضعف والوهن والضياع التي بدأ يعاني منها.

انهار النظام في الجنوب. انهارت الدولة التي لم تكن تمتلك في الواقع اقتصادا يسمح لها بالاستمرار. صحيح أنه لا يزال هناك من يدافع عن دولة الجنوب من منطلق أنّها كانت دولة يسودها القانون والامن فيها ادارات ومؤسسات. لكنّ الصحيح أيضا أن هؤلاء يتناسون كمية الظلم التي لحقت بمئات آلاف اليمنيين الذين وجدوا أنفسهم في دولة فقيرة تعيش على هامش الفورة النفطية في الخليج.

لا داعي إلى فتح الدفاتر القديمة. كلّ ما يمكن قوله أن السيّد علي سالم البيض الذي كان الامين العام للحزب الاشتراكي الحاكم في الجنوب استعجل الوحدة وذهب، عن حسن نيّة، إلى صنعاء ليصبح نائب رئيس مجلس الرئاسة. لكنّه استعجل ايضا في اتخاذ قرار الانفصال والاعتكاف في عدن من دون استشارة معظم زملائه في قيادة الحزب الاشتراكي اليمني.

أما بالنسبة إلى حرب صيف 1994، فالثابت أن الرئيس علي عبدالله صالح، الذي كان رئيسا لـ"الجمهورية العربية اليمنية" قبل الوحدة، بذل الكثير من أجل تفادي الحرب التي خلقت واقعا جديدا على الارض. وصل الامر بعلي عبدالله صالح قبوله توقيع "وثيقة العهد والاتفاق" في عمّان في شباط-فبراير من العام 1994، على الرغم من أن الوثيقة تضمّنت كلّ مطالب خصومه...

منذ ثلاثة وعشرين عاما، و إلى اليوم تغيّرت طبيعة المجتمع في المحافظات الجنوبية والشرقية التي كانت تشّكّل دولة الجنوب. تغيّرت ايضا طبيعة العلاقات التي كانت تربط بين هذه المحافظة الجنوبية وتلك. لا شكّ أن كلّ امراض الشمال انتقلت إلى الجنوب. كذلك كانت هناك، خصوصا بعد حرب 1994، ممارسات خاطئة ومجحفة، بل مذلّة، في حق مواطنين جنوبيين. هل هذا يكفي لتبرير الانفصال...أم المطلوب أكثر من أيّ وقت التمهّل والنظر إلى الواقع كما هو وليس كما لو أن شيئا لم يتغيّر منذ 1990؟

الثابت أن اليمن كلّه تغيّر وليس الجنوب وحده. لكنّ المؤسف أن هناك من لا يزال يعتقد أن في الامكان حكم الجمهورية اليمنية من صنعاء، حتى بعد انهيار معادلة "الشيخ والرئيس" التي كانت بمثابة تحالف بين مجموعة قبلية معيّنة والمؤسسة العسكرية وبعض التجار الآتين من تعز وبعض المجموعات الاسلامية المنتمية إلى حزب الاصلاح. من بين هذه المجموعات الاخوان المسلمون، الذين يعتقدون، إلى الآن، أن لديهم مشروعهم لليمن كلّه، على الرغم من الضربة القويّة التي تلقوها نتيجة فشل تجربتهم في مصر!

مثلما انهار النظام في الجنوب، انهار النظام في الشمال. اصبح أولئك الذين كانوا يديرون الدولة المركزية، انطلاقا من صنعاء، اسرى أسوار العاصمة، خصوصا بعد ابتعاد زعماء حاشد، أي آل الاحمر، عن علي عبدالله صالح وتحوّل اللواء علي محسن الاحمر من حليف للرئيس السابق إلى خصم لدود له.

هذا التطوّر جعل الحوثيين يوسّعون نفوذهم. صاروا جزءا لا يتجزّأ من المعادلة اليمنية وهم استفادوا من دون شك من الفراغ في صنعاء واقاموا حتى رأس جسر في تعز الشافعية، البعيدة عن العاصمة والتي تعتبر أكبر المدن اليمنية.

اذا أخذنا في الاعتبار التحولات التي طرأت على الوضع اليمني ككلّ وأضفنا اليها الازمة الاقتصادية الخانقة وأزمة التعليم والقات وانتشار "القاعدة"، الذي يعبّر عن صعود التطرّف الديني، فضلا عن أزمة المياه التي يمكن أن تحوّل صنعاء نفسها إلى مدينة غير قابلة للحياة، فان الانفصال ليس حلا...حتى لو تحقّق، وحتى لوكانت هناك قوى خارجية تعمل من أجل ذلك.

في وقت لا يزال مؤتمر الحوار الوطني منعقدا، يفترض البدء في التفكير في كيفية البحث عن صيغة جديدة للبلد كلّه. أقلّ ما يمكن قوله أنّه يفترض بهذه الصيغة أن تكون بعيدة عن كلّ صيغ الماضي. لا بدّ من كسر الحلقة المقفلة عن طريق دستور عصري يسمح لكلّ منطقة يمنية تدبير امورها بنفسها في اطار دولة اتحادية. لا مفرّ من ذلك، أي لا مفرّ من التفكير في مستقبل اليمن من زاوية واسعة مختلفة على الرغم من الجهود الدولية والعربية العاملة على ابقاء الوضع فيه تحت السيطرة.

ما على المحكّ يتجاوز كلّ الاعتذارات. في النهاية، ليس معروفا في ضوء كلّ الاخطاء التي ارتكبت مَن يجب أن يعتذر من مَن؟ أوليس على الجميع الاعتذار من اليمن ومن العجز عن عرض المشاكل التي يعاني منها على حقيقتها، بدءا بتسمية الاشياء بأسمائها. انّها مشاكل مرتبطة بمستقبل البلد وبكيفية تفادي الصوملة أوّلا وأخيرا. اننا في اليمن أمام ازمة مصير لا يحلها اعتذار من هنا أو آخر من هناك.

زر الذهاب إلى الأعلى