توقع الجميع أن تكون الفترة الانتقالية التي حددتها المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية بعامين تنتهيان، حسب نصوصهما، في 21 فبراير (شباط) 2014، مدخلا لحل جميع القضايا التي أدمن اليمنيون محاولات فك طلاسمها وإيجاد الحلول لها، وتوقع البعض أن يصبح ما يعرف ب«مؤتمر الحوار الوطني الشامل» ساحة لطرح الأفكار الجادة والرؤى الواقعية وابتكار المخارج السلمية والمقبولة من أصحاب الشأن.
قبل بدء أعمال اللقاءات تجاهل معدوها أهمية التهيئة السليمة التي دعا إليها الكثيرون من قادة الجنوب الذين أدركوا أنها قد تسهم في دفع القوى الحقيقية للمشاركة اللقاءات، وطرح ما يرونه سبيلا للخروج من الكارثة التي صنعتها حرب صيف 94 وما تلاها من أعمال تعسفية جعلت المزاج في الجنوب كارها وناقما ليس على الذين قادوه إلى الوحدة على غير هدى ومن دون بصيرة، وإنما على الوحدة نفسها.. لكن العناد والركون على الضغط الخارجي والتأخير في انطلاق لقاءات ال«موفنبيك» دفع إلى التعجل من دون إعداد بحجم الحدث.
أثرت هذه المخاوف في لقاء جمعني بسفير غربي معتمد في صنعاء، وحذرته من الدخول في أعمال الحوار قبل استنفاد سبل التواصل مع القادة الجنوبيين الفعليين في الداخل والخارج، وعجبت من تبريره بأنه من الممكن المضي في الحوار وإن تغيبت القوى الحقيقية، وأنه من الممكن خلال هذه الفترة استمرار المساعي، حتى لا يضيع الوقت - حسب تعبيره - وهو ما جعل النجاح مرهونا بمدى القدرة على المواءمة بين المبادئ والابتزاز وقدرة أحد السفراء على التأثير في ما يدور في أروقة ال«موفنبيك».
بعد أيام قليلة من بدء اللقاءات في ال«موفنبيك»، اتضح أن المخاوف التي ساقها الكثيرون إزاء سياسة حرق المراحل صارت هاجسا وواقعا تحولا مع مرور الوقت إلى عامل قلق وإحباط عند المواطنين، ورغم المزايا المادية التي تم إغداقها على المشاركين فإن الواقع كان أكثر ضغطا وحسما، وكان جرس الإنذار هو انسحاب أحد القادة الجنوبيين من اللقاءات وتقديم استقالته، بل ومغادرته البلاد لينشغل بأعماله الخاصة، لكن ذلك لم يثر أي رد فعل لتدارك الموقف، وتم التعامل مع الموقف بالتجاهل المعتاد.. لكن استمرار العناد والاعتماد على تحركات بعض السفراء الغربيين وجعلها عامل الحسم الأهم برهنا بأن الداخل هو الذي يجب التركيز عليه بعيدا عن الأساليب العتيقة من صرف للأموال وشراء للولاءات.
تعددت القضايا التي تم تكليف أعضاء المؤتمر بمناقشتها، وكثرت التوصيات والمقررات والوقفات الاحتجاجية، وفجأة تذكر أصحاب القرار أنه لا قيمة لكل الجهد المشكور الذي بذله المشاركون والوقت الثمين الذي قضوه، ما لم يتم التوصل إلى حل لقضية الجنوب بما يرضي أبناءه ويعيد لهم ما افتقدوه خلال العقدين الماضيين.. وتذكر هؤلاء التوصيات التي سبقت لقاء ال«موفنبيك»، ثم ما أضيف إليها، وتم تشكيل لجان لتنفيذ ما جاء فيها، وتم رص مصفوفة تنفيذية محددة بأزمنة ثابتة، على أن يتم رصد الأموال اللازمة، إن توافرت، لجعلها واقعا بعيدا عن الأحجية.
هنا يتبادر سؤالان إلى الذهن: ماذا يريد حقا أبناء الجنوب؟ ولماذا يتخوف بعض أبناء شمال الشمال من مطالب الجنوبيين؟
عند انتهاء حرب صيف 94، تحول الجنوب إلى ساحة لاقتسام الغنائم، وتغاضى شركاء الحرب، شماليين وجنوبيين، عما أصاب إخوانهم في الجنوب، بل وزادوا أن اعترضوا على كل دعوات المصالحة الوطنية والإسراع في تطبيع الأوضاع وعدم الانتقام من خصوم الماضي. وهكذا ذهبت كل الصرخات في واد سحيق من التجاهل والسخرية من الموهومين بالانتصار مدعومين بغرورهم وقوتهم الزائلة.
أدى مرور الوقت إلى حالة من الاسترخاء في المركز المقدس، تحول إلى استخفاف من تدهور الأوضاع النفسية والاجتماعية والأمنية، وزينت التقارير كل باطل وأحالت كل المساوئ إلى مصطلحات «العملاء» و«أعداء الوحدة» و«الحاقدين» إلى آخر قاموس الأنظمة التي تبتعد عن الواقع وتعيش في برجها العاجي، ولا تدرك أنها صارت كالنعامة.
تعالت الأصوات في الجنوب تعبيرا عن الحنق والشعور بالظلم والمطالبة بالمساواة وإن في حدودها الدنيا، وظل المركز المقدس في صنعاء غائبا عن المشهد الحقيقي، والتزم بنهجه في التعامل مع المسألة عبر شراء الولاءات وإنفاق الأموال والمشاريع التي لا تعود على المواطنين بنفع يخفف من غضبهم وغيظهم، وتحول الأمر منطقيا من المطالبة بالمساواة ورفع الظلم إلى دعوات بالانفصال وإنهاء الاحتلال.
إنني أشعر بأن ما يدور من محاولات تتصارع مع الزمن للتوصل إلى حلول مرضية للجنوبيين يجب أن يتعامل مع الوقائع على الأرض وليس لاستنزاف الوقت في الهوامش، وعلى الجميع السعي لتدارك الانزلاق في متاهات اللجان والمصفوفات والجداول الزمنية، ووجوب التعامل الجاد والمسؤول مع قضية أدى التساهل في حلها وتسطيح عواملها إلى انزلاق البلاد جنوبا وشمالا نحو هاوية بلا قرار.
إن الحديث الذي كان يدور، حاليا، حول ما يمكن «التفاوض» عليه يدور حول مشروعين اثنين: شعب واحد في إقليمين، وشعب واحد في أقاليم خمسة (اثنين في الجنوب وثلاثة في الشمال).
صحيح أن النظرة العدائية في الشمال (خاصة شمال الشمال) تجاه الفيدرالية خف وزنها وصار الحديث عنها مقبولا من باب امتصاص الصدمة، لكن واقع الحال الذي على هؤلاء أن يدركوه هو أن القبول بالفيدرالية بين إقليمين سيفتح أبوابا أغلقها التعامل المغرور، وسيتيح مجالات تعاون وستستعيد النفوس - حتما - هدوءها وصفاءها. في شهر يونيو (حزيران) 1994 زرت وصديق عزيز أحد زعماء الجنوب في منفاه، نستحثه السعي، بحكم علاقته الوثيقة حينها مع السلطة في صنعاء، لوقف قصف عدن وضواحيها وإنقاذ أبنائها من الموت ظمأ وقصفا، وقلنا له إن غاية ومقصد أي وحدة في الجوهر هو حرية الانتقال بين أجزاء الوطن المختلفة وحق العيش الآمن والعمل الكريم في أي مكان فيه دون قيود، وضمان مصالحه، وما عدا ذلك لا يهم المواطن العادي الذي هو قوام الأوطان. لم يتحمس مضيفنا لهذا الطرح واعتبره دعوة للعودة باليمن إلى زمن التشطير. التقيت الزعيم اليمني مرات عديدة بعد أن بلغت القلوب الحناجر، فوجدته مدافعا عن رأينا بل ومن دعاته.
هل يتدارك من يديرون الأمور خارج ال«موفنبيك»، وهل يفهم الذين لا يقبلون العيش من دون رعية يفرضون عليهم سطوتهم، أنه لم تبق في الزمن فسحة للتحايل والتلاعب وبيع الأوهام؟.. كما أنه على الذين يقولون، تحت وطأة الشعور بالظلم والغضب، بأن الجنوب ليس يمنيا أن يعلموا هم أيضا أن في ذلك تعسفا وإنكارا للتاريخ والجغرافيا وروابط القربى الممتدة منذ قديم الزمن بين اليمنيين.
سيظل اليمنيون موحدين وإن عاشوا في إقليمين أو خمسة لا يفصل عنها إلا خط وهمي.. وحتى لو صار الأمر كما يتمناه البعض عودة لأوضاع ما قبل الوحدة.