آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

اليمن وتبعات الحلول التوفيقية

عهد اليمن بالصراع والحروب وحكم الدويلات والإمارات ليس جديدا، لقد وهب الله اليمن جغرافية ذات طبيعة خاصة، سهول ساحلية وصحارى في الجنوب والشمال تفصل بينها جبال شاهقة ووديان عميقة، تجاورها مدرجات ومساحات منبسطة، حينما تخضر وتزهو ربوعها يخيل لك وأنت تقف بينها أنك في جنات عدن لجمالها الغجري الوحشي الذي لم تمتد إليه يد التحضر المصنع، مناطق أمطارها غزيرة في الصيف وأخرى في الشتاء، أصقاع باردة وأخرى رطبة حارة، عطاؤها في الخضار والفاكهة يتوافر طوال العام لا ينقطع لا صيفا ولا شتاء، وأصاب كبد الحقيقة من دعاه اليمن السعيد.

لكن موازين الحياة تغيرت مع غزو الحضارة الحديثة لعالم أضحى جديدا في كل شيء.
وخص الله اليمنيين بالذكاء والحلم الفطري، فالحكمة يمانية، كما في الحديث الشريف، وخصهم بالشجاعة، وما من قرية إلا وأهلها أشد منها كما يقول اليمنيون أنفسهم، والذكاء والشجاعة خاصيتان إذا اجتمعتا لا توسط بينها، إما أن يكون لأهلها الصدر دون العالمين كاليابانيين، أو القبر والتخلف كاليمن والأقطار العربية عموما، وقد أقصى البحر اليمن عن القارة السمراء إفريقيا، وأقصته الصحارى عن حاضنته العربية، وأقصت الجبال والوديان أجزاء اليمن بعضها عن بعض، الجنوب عن الوسط والشمال، والشرق عن الغرب، فقسمت اليمن طبيعيا كما قسمت قبليا واجتماعيا، ومهدت لنشوء إمارات ودويلات عديدة في العصر العباسي وما تلاه، فقلما خضعت اليمن لأمير واحد، على الرغم من بقاء اليمن في ذاكرة اليمنيين دولة واحدة رغم ما بينهم من حزازات، فكل منهم يدعي أنه هو اليمن، وكم خاضوا بينهم حروبا عديدة طاحنة، ولولا هذه الحروب لوجدنا اليمن أكبر دولة عربية في تعداد سكانها، ولذلك من الصعوبة توحد اليمن بل المعجزة التي حققها علي عبدالله صالح ولم يحققها أحد قبله لو عرف كيف يسوسها بالعدل والنزاهة على أساس المواطنة ويحافظ عليها اجتماعيا وثقافيا.

ما تعاني منه اليمن اليوم من سقوط ضحايا ونزاعات مسلحة وشقاق ونفاق قديم حديث، حراك جنوبي وآخر شمالي، حراك سياسي مقابل حراك قبلي وثالث ديني، والتدافع اليوم بين اليمنيين ليس على من يبني اليمن الموحد، وإنما على من يحكم اليمن، وفي هكذا صراع يصعب إيجاد قواسم مشتركة بين المتنافسين، وإنما يلجأ المتحاورون دائما إلى حسم الأمور بالتوافق المؤقت الذي يعني أخر ما يعنيه تأجيل القضايا وبقائها معلقة من مرحلة لأخرى، وقابلة للانفجار الحاد والعودة بالبلاد إلى المربع الأول، مربع الصفر، وبالفعل سيبقى اليمنيون يراوحون في مكانهم لا يغادرونه، ويبقي الوطن على حافة الانقسام والتشرذم.

في اليمن اليوم يغيب الأفق الوطني أو يغيّب لصالح أجندات هدفها الاستحواذ على السلطة ترسمها قوى داخلية وخارجية لا يعنيها شأن اليمن وطنا للجميع، فالحوثيون الزيديون في الشمال لم يعد هناك من شك أنهم يسيرون بتوجيه إيراني، ونسخة مستنسخة من حزب الله بلبنان، ويتخذون من الحروب الستة التي خاضوها مع نظام علي عبدالله صالح ذريعة لرفع شعار المظلومية، ووسيلة للاستحواذ على مزيد من المكاسب وأكبر حصة من الكعكة التي تطبخ في مفاصل الحوار الوطني، ولم يعد الجنوب حاضنة آمنة للقاعدة، وتراجعت قادتها الشعبية مقابل تصاعد قاعدة الحراك الجنوبي الذي لا يخفي تطلعاته بقوة إلى الانفصال، ومشاركته في الحوار الوطني ليست أكثر من ذريعة لمراسم الوداع، وليس لديهم من حجة غير أنهم لم يعوضوا عما أصابهم من مظلومية على زمن الوحدة ورئاسة علي عبدالله صالح الذي أصبح همه هو الآخر استرجاع الكرسي المفقود بالسباحة ضد التيار على الرغم من تآكل أنصاره.

ويبقى حزب الإصلاح الإسلامي وأحزاب أخرى قومية صغيرة متمسكين بالوحدة فقوتهم في تآلف أنصارهم وهكذا يبدو المشاركين بالحوار الوطني، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى.

اليمن يعيش اليوم مرحلة مفصلية حاسمة، والمتحاورون يجلسون حول مائدة وضعت في مفترق الطرق، وعليها كل مخلفات وتراكمات الحلول التوفيقية السابقة التي لم تعد قابلة للتأجيل، ولم يعد أماهم إلا المفاضلة بين الاختيارين الذكاء أم الشجاعة، فأما أن يكسروا سيوفهم ويثبتوا أن الحكمة يمانية وينسون كل شيء إلا أنهم يمانيون، أو يتركوا للسيف إن ينال ما نال من أسلافهم ويصدق فيهم قول الله تعالى: “أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ”.

زر الذهاب إلى الأعلى