من الأرشيف

مكافحة الفساد بالفساد!!‏

ما زلت أؤمن بصواب المقولة "إن دَرج المنزل تُكنس من أعلى" حتى مع تقدم تقنية آلة ‏الكنس ‏وطريقته، مع يقيني-أيضا- أنه لا بد أن يكون الكانس أمينا، وقويا، وماهرا، ومخلصا ‏في مهمته، ‏وعليه أن لا يدع مكانا يغمره التراب والغبار والقاذورات حتى لا يكون عرضة ‏للتناثر وتلويث الدرج ‏التي جرى تنظيفها نزولا.‏

وانطلاقا مما سبق؛ فإن الفساد الذي يملأ البلاد ويستفحل في كل أجهزتها الحكومية المختلفة، ‏لا ‏يمكن أن يجتثه المفسدون أنفسهم، بل لا بد أن يقوم بذلك رجال يتمتعون بالصفات المشار ‏إليها سلفا، ‏رجال لم تتورط أو تتلوث أيديهم بالسلب والنهب والسطو على الأموال الخاصة ‏والعامة، كما أن على ‏المنادين بمكافحة الفساد- قبل ذلك كله- إعادة الحقوق إلى ذويها والتطهر ‏من أدرانهم، وإعلان التوبة ‏النصوح؛ وعندئذ سيصدّق هذا الشعب أن تلك الدعاوى صادقة ‏وجادة، وأنها ليست كما كانت تطلق ‏من قبل لتخدير الناس وتضليلهم.‏

ما نشاهده اليوم في هذه البلاد، أن مظاهر الفساد تعاظمت أكثر مما كانت عليه قبل عامين، إذ ‏‏أصبح المفسدون يعرفون بسيماهم للقاصي والداني، دون أن تطالهم جهة ضابطة أو يمسهم ‏قانون ‏نافذ، وهو أمر لا علاقة له بالثورة التي كانت -وما تزال- تنشد القضاء على الفساد ‏والمفسدين، ‏وتؤمل من بنيها السعي نحو التغيير إلى الأفضل؛ بل إن ذلك الفساد جاء من ‏اعتلاء المفسدين موجة ‏هذه الثورة واحتمائهم بها، وبالتالي يُلقى باللائمة جورا على الثورة ‏ويقال: إن ما أتت به لم يكن إلا ‏أنها أضافت إلى جانب كل مفسد ألف مفسد!!‏

الواقع المر يقول باندهاش: هل يعقل أن يظل المسئولون المفسدون في مناصبهم دون أن ‏يكون ‏من يبقي عليهم فيها إلا مستفيدا منهم؟ إن الإجابة الأكيدة ستكون بنعم؛ لأن بقاء هذا ‏المفسد في ‏منصبه يدل دلالة قاطعة على أن من هم أعلى منه سلطة شركاء معه في ذلك، وأنهم ‏يباركون ما يقوم ‏به، ويغضون الطرف عن تصرفاته المخالفة للقوانين، لأنهم -جميعا- على ‏قلب واحد وغاية واحدة، أو ‏أن من يعلونهم مكانة لا يستطيعون الوقوف في طريق أولئك ‏المفسدين ومحاسبتهم؛ لأن طرفا أو جهة ‏أعلى من الجميع هو من يدعم أولئك وتبقي عليهم.‏

لذلك، سيكون محقاً من يقول: إن ثورة، كهذه، لم تستطع أن تلبي طموحات الجماهير في ‏القضاء ‏على الفساد والمفسدين المعروفين في هذه البلاد، ليست بثورة، ولا تعبر عن إرادة تلك ‏الجماهير التي ‏تغنت بها، ولا عن طموحات الشهداء الذين بذلوا أرواحهم رخيصة من أجل ‏مبادئها النبيلة وقضوا ‏نحبهم وهم على ذلك. وبالتالي، فإن هذه الثورة ستكون مدعاة للازدراء ‏ومرتقى سهلا لثورة أخرى ‏مضادة أو متممة، سواء صدقت نوايا رجالها أو تصنعوا ذلك، قرب ‏الزمن أو بعُد.‏

إن على من ينشد مكافحة الفساد، أن يبدأ بمكافحة نفسه الفاسدة، ثم يحشد من حوله من ‏الشرفاء ‏والمخلصين المؤيدين لمشروعه، وأن يعمل على أن تلتحم به الجماهير التي تنادي ‏بذلك، فهذا من أهم ‏عوامل نجاح أي تغيير؛ ما لم فإن الداء سيستعصي وسيسوء المقلب بهذه ‏البلاد ويزداد الفساد فسادا.‏

زر الذهاب إلى الأعلى