ما زلت أؤمن بصواب المقولة "إن دَرج المنزل تُكنس من أعلى" حتى مع تقدم تقنية آلة الكنس وطريقته، مع يقيني-أيضا- أنه لا بد أن يكون الكانس أمينا، وقويا، وماهرا، ومخلصا في مهمته، وعليه أن لا يدع مكانا يغمره التراب والغبار والقاذورات حتى لا يكون عرضة للتناثر وتلويث الدرج التي جرى تنظيفها نزولا.
وانطلاقا مما سبق؛ فإن الفساد الذي يملأ البلاد ويستفحل في كل أجهزتها الحكومية المختلفة، لا يمكن أن يجتثه المفسدون أنفسهم، بل لا بد أن يقوم بذلك رجال يتمتعون بالصفات المشار إليها سلفا، رجال لم تتورط أو تتلوث أيديهم بالسلب والنهب والسطو على الأموال الخاصة والعامة، كما أن على المنادين بمكافحة الفساد- قبل ذلك كله- إعادة الحقوق إلى ذويها والتطهر من أدرانهم، وإعلان التوبة النصوح؛ وعندئذ سيصدّق هذا الشعب أن تلك الدعاوى صادقة وجادة، وأنها ليست كما كانت تطلق من قبل لتخدير الناس وتضليلهم.
ما نشاهده اليوم في هذه البلاد، أن مظاهر الفساد تعاظمت أكثر مما كانت عليه قبل عامين، إذ أصبح المفسدون يعرفون بسيماهم للقاصي والداني، دون أن تطالهم جهة ضابطة أو يمسهم قانون نافذ، وهو أمر لا علاقة له بالثورة التي كانت -وما تزال- تنشد القضاء على الفساد والمفسدين، وتؤمل من بنيها السعي نحو التغيير إلى الأفضل؛ بل إن ذلك الفساد جاء من اعتلاء المفسدين موجة هذه الثورة واحتمائهم بها، وبالتالي يُلقى باللائمة جورا على الثورة ويقال: إن ما أتت به لم يكن إلا أنها أضافت إلى جانب كل مفسد ألف مفسد!!
الواقع المر يقول باندهاش: هل يعقل أن يظل المسئولون المفسدون في مناصبهم دون أن يكون من يبقي عليهم فيها إلا مستفيدا منهم؟ إن الإجابة الأكيدة ستكون بنعم؛ لأن بقاء هذا المفسد في منصبه يدل دلالة قاطعة على أن من هم أعلى منه سلطة شركاء معه في ذلك، وأنهم يباركون ما يقوم به، ويغضون الطرف عن تصرفاته المخالفة للقوانين، لأنهم -جميعا- على قلب واحد وغاية واحدة، أو أن من يعلونهم مكانة لا يستطيعون الوقوف في طريق أولئك المفسدين ومحاسبتهم؛ لأن طرفا أو جهة أعلى من الجميع هو من يدعم أولئك وتبقي عليهم.
لذلك، سيكون محقاً من يقول: إن ثورة، كهذه، لم تستطع أن تلبي طموحات الجماهير في القضاء على الفساد والمفسدين المعروفين في هذه البلاد، ليست بثورة، ولا تعبر عن إرادة تلك الجماهير التي تغنت بها، ولا عن طموحات الشهداء الذين بذلوا أرواحهم رخيصة من أجل مبادئها النبيلة وقضوا نحبهم وهم على ذلك. وبالتالي، فإن هذه الثورة ستكون مدعاة للازدراء ومرتقى سهلا لثورة أخرى مضادة أو متممة، سواء صدقت نوايا رجالها أو تصنعوا ذلك، قرب الزمن أو بعُد.
إن على من ينشد مكافحة الفساد، أن يبدأ بمكافحة نفسه الفاسدة، ثم يحشد من حوله من الشرفاء والمخلصين المؤيدين لمشروعه، وأن يعمل على أن تلتحم به الجماهير التي تنادي بذلك، فهذا من أهم عوامل نجاح أي تغيير؛ ما لم فإن الداء سيستعصي وسيسوء المقلب بهذه البلاد ويزداد الفساد فسادا.