يمر الساسة بحالة من التخبط والحيرة، وهم في سباق مع الزمن لإنجاز أخطر مهمة أوكلت إليهم لتحديد الكيفية التي ستكون عليها الخارطة السياسية اليمنية بعد 21 فبراير (شباط) 2014 - الموعد الافتراضي لانتهاء الفترة الانتقالية، وخروج البلاد من حالة مشروعية التوافق السياسي إلى مرحلة الشرعية الدستورية.. وليس الساسة وحدهم من يمرون بحالة الارتباك، بل يشاركهم السفراء الغربيون الذين تبدو عليهم علامات الإنهاك والجمود الفكري، ويقف على رأس كل هؤلاء السفير الأميركي المنتهية خدمته لدى اليمن ويغادره وقد أضاف أسطرا قليلة، في نبذته الشخصية، من النجاح والفشل، فقد كان الشريك الفاعل والأساسي في إنجاز أول عملية تغيير لرأس الدولة في اليمن عبر تفاهم سياسي، أشرف على كل تفاصيله بين القوى المتصارعة في صنعاء، بما يعرف بالمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية.. ومما لا شك فيه أن السفير قد كسب أصدقاء سيفتقدونه، على مختلف المستويات ضمن قائمة من الذين رأوا فيه مدافعا عنهم وحاملا لطموحاتهم، وفي الطرف المقابل اعتبره غالبية اليمنيين العاديين مبالغا في تدخلاته ومتجاوزا الأعراف الدبلوماسية في كثير من تصريحاته وتصرفاته التي بلغت حد التعبير عن رغبته في اختيار رئيس للحكومة قبل بداية المرحلة الانتقالية الأولى.
حتى كتابة هذه الأسطر، لم تتفضل رئاسة لقاءات الموفنبيك بالإعلان عن انتهاء أو تمديد أعمال الحوار، ولا يزال الأمر يقع في خانة الشك حول الكيفية التي يمكن الخروج بها من الورطة، لكن المؤكد هو أن الذين أدمنوا تأصيل الأمر الواقع كيفما كان، وتبرير كل خطيئة يرتكبها الحاكم، والتذرع بالظروف مهما بلغت تفاهتها، صاروا جاهزين للدفاع عن البقاء في مربع الجمود تنفيذا لرغبات ضيقة الأفق، وبدأوا رحلة البحث عن بديل وإن لم يتفق مع نص دستوري.
ما زالت القضية الفصل معلقة، ويواصل المتفاوضون محاولاتهم للاقتراب من حل مرضٍ لقياداتهم بغض النظر عن رأى المعنيين الحقيقيين في الشارع الجنوبي، وكان أكبر نجاحاتهم أنهم توافقوا على اسم لجنة التفاوض وتغييرها من (لجنة 8 + 8) إلى (اللجنة المصغرة)، ثم أضافوا نجاحا آخر وهو أن يكون الاجتماع على طاولة مستطيلة ومن دون ترتيب جغرافي.. أليس هذا دليلا على الخفة والتسطيح؟ إذ بعد أن نجحوا في إنجاز هذين الأمرين، توقفوا ونفد معينهم وجف خيالهم عن تصور الحلول الحقيقية المطلوبة منهم.
لعل مواصلة توجيه اللوم إلى الساسة - الموظفين فيه قدر من المبالغة للدور الذي يمكن أن يقوموا به، وهم الذين اعتادوا طيلة سنوات خدمتهم أن يكونوا رهن إشارة الحاكم، أي حاكم، واستمرأوا تلقي الأوامر والانصياع لها من دون مراجعة، وبذل الجهد لإرضائه والاقتراب منه.. لكن المؤكد أنهم لا يعانون تأنيب الضمير على صمتهم المزمن وخنوعهم المستدام واستسلامهم لمغريات الاقتراب من دفئه.
إن العقم الفكري وعدم القدرة على ابتكار خيارات متعددة يمكن طرحها والدفاع عنها، هما سبب الإشكالية التي تعانيها الأطراف المشاركة في التفاوض الحالي، حتى وإن حاول البعض التستر عليهما، ومن هنا يتمسك كل طرف بالفكرة التي طرحها في البدء، وتحولت الجلسات إلى مشاهد عبثية من إضاعة الوقت واستنزافه، مما أتاح للسفراء الغربيين على وجه الخصوص التحرك بحرية مطلقة في مساحات الخواء الذي صنعه الستة عشر عضوا، ولم يكن مفاجئا أن بدأوا اقتراح بدائل لم تكن معروضة بجدية منذ البداية، ولعل أعجبها هو استبعاد كل ما كان مطروحا للتفاوض وانتقلوا إلى فكرة أن يصبح اليمن 21 إقليما وبذا تتحول المحافظات الحالية إلى أقاليم بصلاحيات مفترضة إدارية ومالية كاملة ويستمر المركز المقدس في ممارسة سلطاته السيادية المعتادة بما له من قدرة على التحكم في توزيع الموارد المالية.. وصار اليمنيون، نتيجة هذا الخلل البنيوي في تفكير الذين منحوا فرصة التحكم في مستقبل الوطن، ينتظرون ما سيفرضه الغربيون على المتفاوضين، ليس بغرض الانتقال إلى حالة استقرار وانطلاقة نحو مستقبل ينشده العامة، ولكن بهدف ترحيل القضايا إلى زمن قد يكون أفضل برجاله وأحلامه.
الواقع الحالي الذي أصبح أقرب إلى اليأس منه إلى الرجاء، وضع البلاد أسيرة خيارين لا ثالث لهما: المضي نحو فترة انتقالية يحكمها توافق سياسي جديد بين الموقعين على المبادرة الخليجية ويضاف إليهم الحوثيون ومن فرضوا أنفسهم ممثلين للجنوب ويصدر بها إعلان دستوري يلغي الدستور الحالي ويحل مجلسي الشورى والنواب، وإما الدخول في مخاطرة إجراء انتخابات نيابية ورئاسية..
لا شك في أن خيار التمديد يبدو أكثر أمانا للشركاء الجدد في السلطة، شريطة إيجاد صيغة جديدة تتمكن من خلالها أحزاب «اللقاء المشترك»، التي كانت تمثل المعارضة في الماضي، الحصول على تمثيل في السلطة التشريعية الحالية أو المقترحة، ولذلك حاولت الضغط للاستحواذ على حصة في لجان مجلس النواب الحالي لا تتناسب مع تمثيلها الحالي فيه، ولما فشلت اقترح البعض تحويل مؤتمر الحوار الوطني إلى جمعية تأسيسية تشريعية لمدة خمس سنوات يتزامن معها التمديد للرئيس عبد ربه منصور هادي لذات الفترة، وهذا يمنح الأحزاب – عدا حزب «المؤتمر الشعبي» العام – فرصة نادرة للبقاء في دائرة الحكم من دون جهد حقيقي في الشارع لأن تمثيلها في المجلس النيابي الحالي ضئيل جدا، كما أن بعضها ليس له أي وجود فيه.
إنني أرى في التوجه نحو الحكم بإعلانات دستورية تحايل على ما قدمه الشباب الذين قادوا حركة التغيير السلمية وإذ بالساسة يقفزون إلى مقدمة صفوفهم ويستلبونهم أحلامهم ويضعون الخطط لمستقبلهم متجاهلين تضحياتهم غير عابئين بآمالهم التي من أجلها خرجوا إلى الساحات على امتداد اليمن.. كما أن عملا خاطئا كهذا لن يكون إلا تحايلا على ما بقى من شرعية تستمد منها الأحزاب الغطاء لما تقوم به وتتوافق عليه، ومن المستغرب أن تتقبل الأحزاب قرارات صدرت خارج كل النصوص المعمول بها وصمتت عنها لأنها حازت نصيبا فيها.
الحديث عن الانتخابات في ظل هذا الارتباك السياسي والتوتر النفسي والقلق الاجتماعي لن يكون أكثر من إصرار على تكرار ما شاهدناه في المرحلة التي سبقت حركة التغيير الشبابية، وتأسيس لكل السلبيات التي كانت الأحزاب تصرخ اعتراضا عليها، وخصوصا التلاعب بالإرادة الشعبية وفرض مخرجات لنتائجها تحت مبررات ضغط الوقت وضرورات المرحلة إلى آخر المفردات التي صارت جزءا من قاموسهم في كل مرحلة.
إن الحديث عن إعلانات دستورية أمر شديد الخطورة على البناء الدستوري الذي يتمناه المواطنون، حتى وإن راقت الفكرة لبعض من لا يدركون تبعات هذا العمل، ولا يجوز العبث بهذا الأمر تحت أي مبرر، ومن الممكن استبدال ذلك باستخدام ما تبقى من شرعية لمجلسي النواب والشورى والتوافق السياسي بين الموقعين على المبادرة الخليجية لاستنباط صيغة جديدة للحكم لا تتجاوز السنة الواحدة.
ما بين التمديد والانتخابات وكابوس الإعلانات الدستورية، لا يبدو أن الساسة يضعون في حسبانهم أحوال الناس ومتطلباتهم، وإنما انشغلوا بما سيجنونه من حصاد لأحزابهم.