[esi views ttl="1"]
من الأرشيف

الزياني ومخمل السياسة

جلست اليمن أواخر الشهر المنصرم على طاولتي دولتين منفصلتين بالتآمهما وجهات عمل المشاركين، متصلتين من حيث الوجهة والهدف.. وأحسبها اقتعدت مهيضة الجناح ولم تقل شيئا يعكس حقيقة تباريحها، ولم تسمع وصفا دقيقاً يشخص اختلال الداخل واعتلال الرؤية الخارجية بكل ما تحمله من عولمة وتقديرات سطحية أنهكها رقع خرق امتد واتسع وتغول وتدول حتى أعيا الراتق وأعجز المشفق المتحاذق.

المبعوث الأممي يردد نفس العبارات المطاطية ويتعاطى مع اليمن كبلد طمرته الرمال وما من ضرورة تدعو العالم لاحترام عقل وذاكرة شعبه، وحين تصل تقديراته للنجاحات المحرزة في مؤتمر الحوار درجة 90% نتذكر نتائج الانتخابات الرئاسية في بلدان الديموقراطيات الناشئة، التي جربتها شعوبنا بأمل الحصول على مرشح يمثل المعارضة في استحقاق السقوط مدفوع الأجر.

90% من النجاحات المحققة حسب السيد جمال بنعمر، كم تميمة نحتاجها لحراسة تلك النتيجة من عين حاسد ولوثة معاند، وفي مثل أوضاع اليمن الراهنة يمكن الرهان على هذه المحصلة وترك الـ10% لما وراء الميتافيزيقيا من كمال؟ وحيال بشرى كهذه - تستمد مصداقيتها من المؤسسة الدولية الأكبر في العالم - لا مبرر للتلويح بكشف حقائق أخرى عن الأطراف المعيقة وإلاّ عد تقرير المبعوث ضربا من أحلام اليقظة!

أما الطاولة الثانية فتبرز سيف التأريخ المصلت على بلد أصابها جذام السياسة لتبحث على مائدة المانحين وحيدة إلاّ من ذات الأسطوانات المشروخة لحكومة تستعرض حاجاتها إلى مال يعالج مشكلاتها هي لا حاجات التنمية وموجهاتها الأساسية في خدمة المجتمع، وكان رئيس وزرائها استهل مرحلته بالبكاء ولم يخطر في بال مواطنيه أنه فعل ذلك في سياق تهيئتهم ليكونوا على دين الملك، وتسيح مدامعهم من عهد لم يروا في حيواتهم الطويلة مثيلا له في السوء.

مدعاة غرابة أن ينفض سامر محفلين دوليين عن مسحوق ناعم على شفاه الريح وخطاب عائم يثني على التسوية السياسية داخل نيويورك، فيما صنعاء ومعظم أرجاء اليمن غارقة في الظلام الدامس، وحكومة الوفاق تداري الخارجين عن القانون وتلتزم الحشمة إزاء الاغتيالات اليومية الأقرب إلى أجندات القوى المأزومة منها إلى جماعات القاعدة!!

وفيما عدا مقتطفات مقتضبة في كلمة د. عبداللطيف الزياني، أمين عام مجلس التعاون الخليجي، لم نقف على وجهة نظر مقنعة تجعلنا نثق بأن اليمن - وليس دولة أخرى قريبة الشبه - هي المعنية فعلا بالمداولات المكررة على الطاولات الدولية.

الزياني أشاد بقدرات وقرارات الرئيس هادي، مؤكدا ثبات دول مجلس التعاون على مواقفها المساندة لوحدة اليمن واستقراره، وضرورة تضافر مصادر التمويل الخارجي لمساعدته على تجاوز المصاعب المهددة سير التسوية السياسية، وتلك ولا شك مواقف أخوية عبر عنها الأمين العام بصدق وموضوعية يستحقان المباركة والثناء.. لكنا انتظرنا منه رؤية معمقة تكشف عن ما تريده دول المجلس من اليمن وليس مجرد التعويل على الأعراض المطلبية لأوضاع استثنائية طالما مرت بها دول وحضارات وشعوب أخرى، وخرجت منها معافاة تنشد السلم وتشارك في بناء صروح التقدم والنماء الإنسانيين.. فلا الأفيون أعاق الصين من النهوض، ولا الكثافة السكانية والصراعات الداخلية منعت الهند من التفوق، كما أن قسوة الصحراء وجذور مجتمع البادية لم يمنعا قطر من امتلاك أكبر ميكرفون في الوطن العربي.. ودائما كانت إرادة الشعوب عنصرا رئيسا في مضمار التطور وحتمياته المطلقة.

شخصياً انتظرت من الأستاذ الزياني ببصيرته النافذة أن يقول للعالم إن اليمن يمثل جزءا أصيلاً من استراتيجية خليجية تضعه في بؤرة أهدافها المستقبلية، وليس مجرد صداع مزمن يؤرق أشقاءه، كما حاولت القوى الاستعمارية المعاصرة الإيحاء به في تصريحات وتقارير غربية حاولت تكريس هذا المفهوم السوداوي والترويج له كما لو كان اقتباساً من نهج يضمره الخليج نحو اليمن!

وهنا نسأل: كيف يكون الجار خليجيًّا والمبادرة خليجية بينما يأتي الخطاب الرسمي مثقلاً بقيود الدبلوماسية وتحفظاتها؟ ولماذا لا نسمع للأشقاء مكاشفات موضوعية تساعد القيادة اليمنية على خلق البيئة المناسبة للمواءمة مع أوضاع المنظومة الخليجية وإن على المدى المتوسط أو البعيد؟

نحن في الحقيقة لا نريد ليمننا خوض مغامرات عاطفية تحول التوحد إلى حقل للكراهية ومرتع للسقوط في وحل الفصام.. وليس من بين تطلعات اليمنيين تصدير مشكلاتهم ولا أن يتشحوا السلاح ويمضغوا القات ويعمموا قوالب الاستعصاء القبلي والمذهبي على الدولة، بيد أن منطق الاستراتيجية متوسطة المدى كفيل بإحالة هذه التعقيدات إلى تحديات مشتركة على طريق الغايات الكبرى لنظم سياسية راشدة، تقرأ المستقبل بعناية وتستطلع من ثنايا الصراع الدولي الراهن أولوياتها الوجودية في عالم تحكمه نزعات الاستحواذ، ولا يتورع عن استخدام قيم الخير معبرا للنفوذ وقضم إرادة الشعوب والتهام دول وإحلال أخرى.

فمتى يتشجع الأستاذ الزياني ونسمع منه رؤية خليجية تستلهم تحديات التأريخ أكثر مما تحاكي مخمل السياسة وتقلباتها.

زر الذهاب إلى الأعلى