بضعة أسابيع تفصل بين النهاية المفترضة للحوار والجلسة الختامية والتي يعول عليها البعض في الخروج بتوافق بين الأطراف المتنازعة ولا سيما في جزئية القضية الجنوبية.
فمنذ أكثر من عامين واليمنيون في حيرة من أمرهم فما إن تنفس اليمنيون الصعداء لرحيل رأس النظام السابق بعد مماطلة مفضوحة هاهم اليوم يتجرعون كأس المماحكات بين ذيول ذلك النظام ودهاقنة السياسة الذين يمثلون أطراف القضية الجنوبية تحديدا.
فتصلب كل هذه الأطراف سواء من الحرس القديم الذي شن الحروب ضد شركائه في الوحدة أو ضد من عرفوا بالحوثيين لم يكن ذلك حرصا على الوحدة الوطنية بقدر ما كان انعكاسا لتشبثه بالسلطة التي ما زال البعض يحلم بها حتى اليوم، فجميع الأطراف المتناحرة تتطلع لما بعد الحوار وتتهافت لتظفر بكعكة السلطة ولو أجزاء مجزئة من بقايا وطن.
فبينما يرى البعض أن ارتهان القرار اليمني لإرادة الخارج سواء الإقليمي أو الدولي يقضي على سيادة القرار اليمني فإن آخرين يرون في ذلك ميزة تكبح جِماح بعض المغامرين الذين أثبتوا عجزهم بعد تجاربهم الفاشلة على مدى عقود، وعاثوا فسادا في مجتمع تم تجهيله وتفقيره وربطه بثقافات وممارسات كادت تنقرض (القات والسلاح والقبيلة).
ومن هنا فهؤلاء للأسف جزء من الحل المفترض رغم أنهم سبب في المشكلة، ناهيك عن أولئك الذين يدعون تمثيل الجنوب من الحراك الجنوبي المنقسم على نفسه، ولأن تجريب المجرب يعد ضربا من الحماقة فإن ارتهان اليمنيين في هذه الحالة يعد فضيلة سياسية.
ولعل ما يميز مآلات الربيع العربي في نسخته اليمنية عن قرينات الثورات العربية البائسة في معظمها هو خصوصية ثورة اليمن بالتوافق على المبادرة الخليجية بمراحلها التي بلغت إحدى أهم محطاتها المتمثلة في حوار الطيف السياسي.
إن الرؤية الإقليمية عند انسداد آمال التوافق قد تكون شيئا محمودا، ففي حال ساعدت هذه المبادرة على إيجاد حلول تفضي للتفاهم والتوافق لإقرار دستور جديد يؤسس دولة مدنية ديمقراطية فدرالية برؤية يمنية فهذا ما يتمناه كل اليمنيين، ولا يعكر أحلامهم سوى أولئك الذين سرقوا آمال الأمة في الوحدة والتنمية.
ولن تقوم لليمن قائمة طالما بقى من يسيطر على السلطة والقوة والثروة يتحكم في قواعد اللعبة، وجميع اليمنيين يدركون من هي هذه القوى التي اختلفت فيما بينها، بل إن البعض يخشى البوح بقناعاته لارتباط ذلك إما بأمنه أو بلقمة عيشة.
ولن تقوم لليمن قائمة إلا بالدولة المدنية التي تبسط سيطرتها ويتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات والعدل أساس الحكم، وليست الوحدة سبب تعاسة هذا الشعب بل من فرض هذه الوحدة الارتجالية ودخلها بعقلية إقصائية وأنانية نرجسية فضة.
كما أن استمرار "وحدة مايو" التي ارتبط اسمها بالبؤس والظلم والدجل والتدليس لم تعد في واقع الحال، وبالمقابل لن تكون الفدرالية فردوس اليمنيين وتجعل من طريق الأمة مفروشا بالورود، أما مستقبل هذا الشعب المتطلع للأمن والاستقرار فهو مرتبط باستقرار اليمن وتوفر مصادر الرزق والكرامة لليمنيين، بغض النظر عن شكل الدولة فدرالية أو اندماجية، أو شكل النظام الحاكم برلمانيا، أو رئاسيا، أو حتى ملكيا أو جمهوريا.
الأمر الآخر هو أن يدرك الجميع أن الحوار بقدر ما هو سلوك حضاري وظاهرة إيجابية تزين الربيع العربي في نسخته اليمنية، إلا أن القول الفصل ليس بيد اليمنيين، وقد يضغطون في اتجاه حل معين قد لا يستسيغه البعض.
فلا بد من قناعة ورضى كل الأطراف، ولكن من جهة أخرى فقد غدا أمر اليمنيين بيد غيرهم، وبات مرتهنا لإرادة الراعي الإقليمي والدولي، فبفضل نظامنا السابق غدا الوطن مرتهن للخارج وبدون مقابل سوى استمرار النظام أكثر مدة ممكنة.
فمن ضمن أشكال ذلك الارتهان أن اليمن غدا ملاذا آمنا لخلايا القاعدة وأوكل لليمنيين مقارعتها نيابة عن الآخرين وتلك إنجازات السياسة الخارجية لليمن خلال العقود الماضية.
يتناول البعض قضية الفدرالية من باب الإعجاب مقرونا بالتعريف بها في مجتمع يجهل البعض فيه تفاصيل الشكل الجديد والمفترض للدولة اليمنية، وهذا إسهام رائع بنشر الوعي، ولكن ليس كل ما يتم التنظير حوله ومعمول به في أرقى الأمم سيثمر بالضرورة في اليمن.
فقد جربنا الديمقراطية وشكل الوحدة الاندماجية كوجبة واحدة في عهد واحد فتصدى لها دهاقنة السياسة وأصحاب المصالح الضيقة الأنانية بإقصاء الآخرين، وتمحور السلطة في يد دائرة ضيقة يغلب عليها الطابع القبلي الأسري والمصالح بين بعض الرموز من هنا وهناك، فأنتجت نظاما ممسوخا فاقدا للشرعية، رغم تطبيل الإعلام ليلا ونهارا للزعيم الفذ، وهذا ما كان للأسف، فوأد الوحدة وأجهض مفهوم ومعنى الديمقراطية وعبث باليمن لنحو ثلث قرن أو يزيد.
وحقيقة لم تحظ جزئية خلافية باهتمام في مناقشات الحوار الوطني الدائر منذ ستة أشهر كما حظيت قضية الفدرالية، فبدلا من أن تكون إحدى مفردات حلول مشاكل اليمن غدت بذاتها مشكلة، فقد انعكس ذلك على الرأي العام والإعلام فتم تناولها من أوجه وأشكال متعددة.
وقد طرح هذا الموضوع قبل سنوات، غداة حرب العام 1994 وقبلها حيث كانت بعض القوى الجنوبية تنادي بها بل ومن بينهم القائد الجنوبي علي سالم البيض الذي كان يؤمن بالوحدة وتصحيح مسارها ولم يسم دولته المقترحة التي لم تر النور بغير المسمى اليمني بينما اليوم كل التيارات ترنو لأبعد من هذا ويتنصل من يمنيتها وكأنها عار.
ومن هنا يبدو أن المخرج من هذه السفسطة المصيرية ليس بالسهولة المتوقعة، وقد تكون الحلول الجاهزة بإيعاز خارجي أنجع الحلول رغم محاذيرها طالما تفرقت أيدي سبأ.