من الأرشيف

اليمن.. باعتبارها الجدار القصير أمام «النُخبة»

في حوار مع صديقي «النخبوي» المشارك بمؤتمر الحوار حول مبرّرات الفيدرالية التي يتبنّاها وخصوصاً صيغتها الشطرية؛ كان أغرب ما سمعته منه أن من «المستحيل» تجنُّب النظام السلطوي الاستبدادي في بلد يقوم اقتصاده على «الريع» ولم تتشكّل فيه الطبقة الوسطى..!!.

كان الرجل يتحدّث دون أن يرف له جفن؛ وبقطعية إثباتية جازمة لا يجرؤ عليها حتى علماء الفيزياء وبقية العلوم الطبيعية حين يقدّمون نظرياتهم العلمية بتواضع، منوّهين إلى أن هذه الحصيلة هي ما توصّلوا اليها وفق المؤثرات التي استطاعوا رصدها حول «الظاهرة» موضع الدراسة التي تؤثّر عليها مؤثرات متعدّدة وتخضع للحقيقة النسبية المتغيّرة.

في العراق قالوا لهم نفس «الموال» وإن الدولة الموحّدة البسيطة لا مجال فيها إلا للاستبداد، وإن الفيدرالية هي الحل لتجاوز الديكتاتورية وتغوّل مراكز القوى، وإقامة النظام الديمقراطي والعدالة والمشاركة الشعبية.

غير أن الذي اتضح بمأساوية لا نظير لها أن الفيدرالية في ظل ضعف الدولة والتمترسات المذهبية والعرقية المؤسسة على الكراهية والانقسام الوطني تؤدّي إلى استبداد مضاعف وبصبغة طائفية وصراعية تؤجّج الطائفية والصراع المذهبي، وتفتح أبواب جهنم أمام البلد الذي ينهار ويتفتّت ويدمّر نسيجه الاجتماعي على مرأى ومسمع من العرب والعالم أجمع.

الفيدرالية في ظل الدولة الضعيفة وانتشار الميليشيات وعدم إنجاز خارطة الطريق لاستعادة هيبة الدولة وفرض نفوذها على كل التراب الوطني تعتبر تمزيقاً، وتفتح الباب لنشوء الدويلات الشطرية والطائفية والمناطقية.

«الفزوّرة» الأخرى لتسويق الفيدرالية الشطرية هي استمرارية مراكز القوى في العاصمة صنعاء، أي أن مروّجي الفيدرالية التقسيمية الذين عجزوا عن مواجهة مراكز القوى يفضّلون الهروب إلى تقسيم اليمن، باعتبارها «الجدار القصير» في نظرهم، والأسهل لاقتطاع حيز من النفوذ على هذا الجزء أو ذاك بدلاً من مواجهة مراكز القوى؛ المهمة الصعبة التي تحتاج من الأحزاب الكرتونية الالتحام بالجماهير وتمثيل مصالح مجتمعية حقيقية وليس مصالح النُخب المهيمنة على الأحزاب مقطوعة الصلة بالمجتمع وقضاياه.

الذين يتحدّثون عن مراكز القوى اليوم هم أنفسهم الذين أغلقوا تلفوناتهم أمام اتصالات الرئيس عبد ربه منصور هادي في ليلة القرار التاريخي بإقالة قائد القوات الجوية السابق، القرار الذي ترتّب عنه عرقلة وتهديدات وغيرها من تبعات يعرفها الجميع آنذاك، هذا الموقف المتراخي مضاف إليه الأداء الضعيف للحكومة واستمرارية حالة الاستنزاف التي دخلت فيها البلاد طوال المرحلة الانتقالية تتحمل جزءاً أساسياً من المسؤولية عنه أحزاب اللقاء المشترك التي جاءت إلى الحكومة والسلطة من بوابة تمثيل ساحات الثورة الشعبية ومن أجل تحقيق أهدافها.

في ظل دولة ضعيفة ومكشوفة أمام التأثير الخارجي؛ تصبح حتى الأقاليم البسيطة مشاريع محتملة لكانتونات شطرية ومناطقية ومذهبية، الخلل الأساس هو أن مؤتمر الحوار الوطني اختزل إلى النقاش حول القضية الجنوبية والأقاليم كحلٍّ سحري يروّج له كبدهيّة مُسلّمْ بها.

هذا الإصرار على الفيدرالية الشطرية من إقليمين «شمالي وجنوبي» يتأسس على إلغاء الثورة الشعبية في 2011م وكأنها لم تكن؛ مع أن الحقيقة الساطعة هي أن هذه الثورة ،من صنع التوازن وفرض مسار التغيير الذي استوعبته المبادرة الخليجية وآليتها، وفتح باب التداول حول أسس الدولة التي تعبّر عن إرادة الشعب اليمني بكل مكوّناته في إطار صيغة تعيد العافية إلى اليمن ولحل القضية الوطنية في إطار يرسّخ وحدتها وأمنها واستقرارها؛ لا أن يتجاهل كل هذه الحقائق والمعطيات ويذهب نحو الخيارات «اليائسة».

لم تكن القوى التي تنجرف اليوم نحو هاوية الفيدرالية تتبنّى هذا الخيار في ظل «وجهها الآخر» الرئيس السابق، وحتى نهاية 2010م، واستمرت على ذلك في 2011م حين كانت الحالة الثورية الشعبية قائمة على الأرض.

والغريب والعجيب أنها أحجمت عن طرح خيار الفيدرالية في عهد صالح، وبقيت تتفرّج على الحراك الجنوبي، ولو فعلت ذلك وامتلكت الشجاعة وطرحت هذا الخيار لكان مبرّراً في ظل انسداد الأفق أمام أي حلول في ظل رفض صالح آنذاك التعاطي مع أي مقترحات لحل القضية الجنوبية في إطار الوحدة اليمنية وبعيداً عن الفيدرالية.

وبدوره كان الحراك الجنوبي يرفض التعاطي مع أي حلول تتناول القضية الوطنية لكل اليمنيين ومطالبهم في وجود دولة النظام والقانون والمؤسسات؛ وذلك بمبرّر عدم وحود حراك في المحافظات الشمالية يرتقي إلى مستوى رفض النظام القائم كما مثله الحراك الجنوبي.

وحينما بدأت الثورة الشعبية في فبراير 2011م كان صالح ونظامه قد نجح في تفكيك الحراك الجنوبي واحتوائه، ودفع بعض مكوّناته نحو هاوية الخطاب العنصري ضد الشماليين، وتوالت الانقسامات والاختراقات الداخلية والخارجية لمكوّناته، وخاب ظن الشارع الجنوبي بهذه المكوّنات، وحين نظّم كأس الخليج قبيل الثورة الشعبية بشهرين؛ لم تخرج حتى مسيرة واحدة تعبّر عن القضية الجنوبية؛ لا بمطالب «فك الارتباط» ولا ما دونها.

وفي ظل هذا الحال جاءت الثورة الشعبية وطلائع الشباب الذين ضحّوا بأرواحهم من أجل الحرية والكرامة والوطن اليمني بكل قضاياه، وأعادوا بتضحياتهم إحياء الأمل في المزاج الشعبي، وأحيوا «العظام الحزبية» وهي رميم، وأعادوا إلى القضية الجنوبية وهجها، وأزالوا الحواجز الكأداء أمام الحراك، آملين أن يستوعب الجميع الشعار الجامع لثورة التغيير من أجل دولة مدنية ديمقراطية لكل اليمنيين.

ولولا هذه التضحيات وهذه الثورة لما كان «المنظّرون» جالسين اليوم على كراسي موفمبيك لرسم مصير اليمن وشكل دولتها ونظامها السياسي وأسس العقد الاجتماعي الجديد.

غير أن الطبع غلب التطبُّع، والأقزام الذين هزمهم علي عبدالله صالح واحتواهم وقبلوا الاستمرار ديكوراً لنظامه آنذاك، يظهرون اليوم مكشوفين تماماً وكأن البضاعة الوحيدة في جعبتهم هي المخاتلة والمراوغة والعجز، في حالة بائسة من الفشل في التعاطي مع مهمة تاريخية تتطلّب قيادات حزبية حقيقية ترتقي إلى مستوى الإيمان بالوطن اليمني ومصلحة اليمنيين كل اليمنيين كشعب ينتمي إلى هذه الأرض ويتطلّع إلى المستقبل الذي حلم به طويلاً وضحّى من أجله كثيراً، وخاب أمله ومسعاه كثيراً، وأوصد الباب أمامه مراراً وتكراراً في أكثر من منعطف تاريخي بسبب خيانة «النُخب» لليمن واليمنيين؛ حتى غدت الخيانات المتكرّرة سمة معروفة لشعب مريض ب «ورمْ النٌخْبَةْ»..!!.

زر الذهاب إلى الأعلى