أرشيف الرأي

عاصمة لا تعصم أحداً ومدنية بلا سلاح!

يسكن العاصمة صنعاء 3 مليون يمنيا ويمنية من مختلف المحافظات اليمنية. تضاعف سكانها عشر مرات خلال العقود الأربعة الماضية، وكبرت مساحتها بمعدلات خيالية وبشكل عشوائي مقفر ومنفر.

صارت هذه المدينة التي كانت تنام مع الغروب داخل سور قبل 50 عاما صورة مصغرة سكانيا لليمن الكبير (اليمن الذي يقول أهل موفنبيك أنهم يعيدون صياغته شكلا ومضمونا) وصورة مكبرة اجتماعيا لكل ما هو سالب فيه، من الانفلات الأمني وتفشي العنف والجريمة إلى فوضى المرور.

مارس نظام الرئيس السابق صالح مركزية مقيتة متعددة المستويات ومتنوعة الأغراض خلال سنوات حكمه الـ33 (للشمال ثم لليمن عموما) مقوضا أية امكانات تنموية، ومبددا فرص قيام عدالة مكانية ومستنزفا المقدرات الذاتية لأغلب المدن اليمنية في الشمال والجنوب وفي الصدارة عدن وتعز والحديدة وذمار والمكلا. كبرت صنعاء وانتشرت داخلها الأورام الخبيثة حتى ان اغلب المعسكرات التي كانت على أطرافها وخارج تجمعاتها السكانية قبل 40 عاما باتت الآن تجثم على صدرها. لم تعد تلك التي "حوت كل فن" فالمدينة العريقة الغناء الشهيرة ببساتينها وشخصيتها الفريدة صارت منذ 3 عقود الجوهرة في كيس قمامة_ على حد تعبير أدونيس. يحاصرها القبح من كل الاتجاهات بل ويتغلغل في بنيانها كل يوم في غفلة من الدولة والمجتمع.

كبرت صنعاء بشكل مرضي، واضمحل غيرها من المدن اليمنية العريقة والندية لها. وفي الحالين ضربت المدينة والمدنية في اليمن لصالح قيم هجينة لا هي ريفية ولا مدينية.

والآن فإن 15% من اليمنيين يقطنون العاصمة. لم يسبق عبر التاريخ أن شهدت اليمن حالة كهذه إلا في حال (المستعمرة) عدن خلال الاربعينات والخمسينات والستينات، المدينة الكوزموبوليتانية التي توفر لها وحدها هيكل مديني مكين لا يزال صامدا في وجه الحملات الهمجية التي تعاظمت بعد حرب 1994.

ما يعد اكبر خطايا نظام صالح يمكن اعتباره ميزة في حال كانت هناك نخب سياسية وطنية ومدنية في قلب الحياة السياسية. إذ أن أية قوة مدنية حقيقية يستحيل أن تتحرك في الواقع اليمني بكفاءة دون استثمار هذا التجمع السكاني الهائل بذريعة أنه يقع في ذروة الهضبة اليمنية التي استقر في وجدان اليمنيين من أبناء المناطق السهلية والساحلية من خبرة التاريخ الوسيط والحديث بأنها منبع الحروب التوسعية والمحاربين الغزاة.

ما أريد قوله هو أن اية نخبة حاكمة تسقط أول ما تسقط، اخلاقيا ومعنويا ثم ماديا، في صنعاء. إذا أراد أهل الحل والعقد المعاصرون في موفنبيك أن يبنوا دولة مدنية فليس أمامهم من بداية سوى صنعاء. كيف يطلبون من سكان الجنوب والوسط والشرق والغرب تصديق تصوراتهم الرومنسية لمستقبل هذه المناطق بينما هم أنفسهم يقطنون في غابة سلاح وفوضى وهمجية، ولا يظهر من سلوكهم ما يفيد بالنفور أو حتى عدم الارتياح؟

من يحمل مشروعا وطنيا لا يقبل بتحييد المدن اليمنية الكبرى وتركها نهبا للقوى العشائرية والقبيلية عليها.

ليس في اليمن الآن قوى مدنية حقيقية تملك مشروعا واضح المعالم. لذلك ليس من المحتمل أن يظهر منافس جدي للقوى الدينية والقبلية في العاصمة، وبالتالي في اليمن. لدينا شتات مدني في شتى البقاع اليمنية يصعب تجميعه لأن نخبة السياسة والقوة في اليمن هي ريفية بامتياز (أكانت من الهضبة أم من السهل والساحل).
عوض الوعود الكبيرة التي لا يصدقها كثيرون، لم لا يرينا رجال الدولة مشاريعهم المستقبلية في العاصمة التي يعيشون في مستوطنات داخلها؟

زر الذهاب إلى الأعلى