لاح شبح الاضطرابات الاجتماعية على نطاق واسع في اليمن منذ ثمانينات القرن الماضي وأشتد مع منتصف التسعينات وتحديدا ، بعد أن وقعت الوحدة اليمنية – تلك الفرصة التاريخية الفريدة- فريسة في أنياب الذئاب البشرية الضارية. وبدأ يظهر على جسد الاقتصاد اليمني طفح جلدي حارق وكاوي ، كاشف عن أوجاع داخلية هيكلية وعميقة. كان صناع القرار يلجأون لإخفائه وتسكين آلامه بدواءِ موضعي واللجوء إلى المانحين وما يطلق عليهم "بأصدقاء اليمن" لتقديم المسكنات. ظلت هٌوّة الفقر في اتساع مستمر وتجر كل عام المزيد من البشر إلى طاحونتها الشريرة ، وجروح البطالة تنهش خلايا الجسد اليمني وتهتّكه ، ومستوى دخل الغالبية من اليمنيين يتآكل ، والنمو الاقتصاد المولد للدخل والثروة يحبو بتثاقل وتباطؤ شديد ، والثروة القومية تنحسر وتتكوم في أيدي شرائح اجتماعية طفيلية قليلة "العقل" والعدد.
وحتى تبدو هذه العبارات واضحة الدلالة والمعنى لدى القارئ اليمني فإننا نسندها بمعطيات مختارة من الارقام الاحصائية الرسمية والدولية. فقد أرتفع عدد اليمنين الواقعين تحت خطوط الفقر الوطنية من 19.1% عام 1992 إلى 38% عام 1998 فيصل عام 2010 إلى 42.4% ليقفز هذا الرقم اليوم إلى 54.5%. وبالأرقام المطلقة أزداد عدد السكان تحت خط الفقر من 2.4 مليون مواطن عام 1992 إلى 14 مليون إنسان في الوقت الراهن. أما العاطلين عن العمل فقد ارتفعت نسبتهم من 9% من قوة العمل في مطلع التسعينات إلى نحو 35% يومنا هذا أي من 342 ألفا إلى نحو 2.5 مليون عاطل. وفي المقابل ظل متوسط معدل النمو الاقتصادي السنوي عند مستوى 4% خلال ربع القرن المنصرم وهو أقل بثلاثة نقاط مئوية ونصف عن ما استهدفته جميع خطط التنمية ، معبرا عن ركود اقتصادي عميق وساحق كمحصلة لغياب البيئة الاستثمارية الجاذبة وغياب استراتيجيات وسياسات اقتصادية وطنية تنموية فعالة وكفؤة. وفي سياق هذا المسار الكلي للفشل الاقتصادي والاستئثار بالثروة استعرت الهٌوّة الاجتماعية وأتسع خرقها بحيث أرتفع نصيب العشرين في المائة الأغنى في المجتمع من الثروة القومية للبلاد من 48% في مطلع التسعينات إلى 67% مع نهاية عام 2010، وعلى الطرف الآخر تآكل نصيب العشرين في المائة الأفقر من سكان البلاد من 8% إلى 1.6% خلال نفس الفترة. وهي أرقام معبرة بكثافة عن شدة التفاوت الاجتماعي العنيف الذي ضرب عمق النسيج الاجتماعي اليمني ومزق روابطه.
وبدلا من العمل الدؤوب والعاجل للتصدي للأمراض الهيكلية والمزمنة التي تفتك بالاقتصاد اليمني ، كان يتم اللجوء لصرف الأنظار بعيدا عن تلك الظواهر المرضية القاتلة بافتعال النزاعات والصراعات الداخلية وخلقها وتخليقها بين الفئات الاجتماعية والسياسية والطوائف الدينية المختلفة. والخاتمة أنه صار علينا اليوم ونحن في أشد حالة ضعفنا ووهننا أن نواجه وحوشا ضارية خلقناها بأيدينا وأطلقنا لها العنان لتنهشن لحومنا وتمزق أرواحنا وتدفن عقولنا.
اليمن اليوم وشعبه على مفترق طرق إما أن ينجو أو يهلك ، ولم يتبق لنا سوى القليل من الادوات التي يمكن أن نشق بها طريق النجاة. ولو مددنا بصرنا وبصيرتنا على مساحة التحديات التي تحيط بنا لصعقنا من كثرتها وتنوعها وقوتها وعمقها وهول اخطارها. وأنه لا سبيل لنا على مواجهتها إلا في ظل وفاق ووئام وسلام اجتماعي شامل. فمحال علينا التصدي ونحن في حالة حرب واحتراب ، ونحن أبناء أمة واحدة نبحر على سفينة واحدة هي اليمن. يكفي أن أضرب مثالا واحدا على قوة التحديات التي تواجهنا في مكافحة الفقر والبطالة. فمن اجل خفض معدل السكان الواقعين تحت خطوط الفقر إلى النصف ، أي من 14 مليون نسمة إلى سبعة ملايين ، نحتاج إلى خطتين خمسيتين متواليتين ونمو اقتصادي مستدام لا يقل عن 7% سنويا. ونحتاج إلى توفير نحو 400000 فرصة عمل سنويا لامتصاص البطالة المتراكمة والمستجدة مقابل 30 ألف فرص عمل كحد أقصي يولدها هذا الاقتصاد الراكد في الوقت الحالي. وهذا الأمر يحتاج إلى استثمارات هائلة ، بحيث لا يقل معدل الاستثمار عن 30-35% سنويا وهو أمر شاق للغاية. ومثل هذا يحتاج بيئة استثمارية شديدة الجاذبية وذو تنافسية عالية. وذلك لن يتحقق إلا في بيئة قانونية وأمنية وقضائية صلبة وعادلة. وما نلاحظه اليوم هو حجم الخراب والدمار الذي تلحقه باقتصادنا تلك الجماعات المتناحرة والمتطرفة والمنفلتة من عقال القانون والضمير.
خسر اليمن خلال العامين الماضيين ما لا يقل عن خمسة مليارات من الدولارات بسبب تفجير أنابيب والنفط والغاز وقطع خطوط الكهرباء ، وما تلك إلا الخسائر المباشرة والتي من شانها درأها الدفع بالعملية الاقتصادية نحو الانطلاق وتأمين ظروف اجتماعية أفضل لملايين اليمنيين. والاقتصاد اليمني اليوم بفعل تلك الأعمال التخريبية وغيرها على وشك الافلاس ، وقد تعجز الحكومة عن تقديم الخدمات الضرورية للمواطنين وربما عن دفع اجور موظفيها خلال الأشهر القادمة إذا استمر هذا الخراب والتخريب دون رادع مجتمعي صارم.
يستطيع جميع اليمنيين ان ينعموا بالخير والرخاء والسكينة إن تعايشوا بسلام ووئام ، وما عدا ذلك سوى غرق السفينة بمن فيها. التوافق والاتفاق على مخرجات الحوار الوطني الشامل هو طوق النجاة الوحيد لما يحيط بنا من تحديات مهلكة جسام.