قيمة الاستقلال ومنجزه الكبير في 30 نوفمبر كان توحيد جنوب اليمن وتحويل رحيل المستعمر البريطاني إلى معادل موضوعي لهذا التوحد مثلما كان وجود السلطنات معادل موضوعي لوجوده وتلبية لحاجاته.
ودون الإنجاز كان بإمكان الحدث ان يتحول إلى كارثة؛ فرحيل البريطانيين بحد ذاته كان مُقرَرَا من قبلهم؛ ولو ترك يرحل بالطريقة التي يراها ومن دون تخلق الحركة الوطنية التي حولت رحيله إلى مناسبة لصهر كل السلطنات في كيان وطني واحد لكان رحيله إيذانا بتمزيق وانحطاط كل اليمن
الان يؤخذ هذا المنجز؛ توحيد السلطنات في كيان وطني واحد يتخذ من الهوية اليمنية مرتكزة الاول ويقدم نفسه وعاءا لمشروعها الوطني باعتباره مكسبا ينبغي تبجيله وقياسه بجوهر مهمته التي انجزها وليس بالأخطاء والصراعات والتناحرات والعزلة التي تلته ورافقت النظام الذي انبثق عنه. وهذا بالفعل منطق صحيح ووطني.
مثل هذا المنجز "الاستقلال" يشبه سبتمبر وأكتوبر ومايو 90.
حدث مثل ثورة سبتمبر مثلا أنجز هدف إسقاط الطابع الطائفي والسلالي عن سلطة "الدولة" وفتح الباب " للطبقة الوسطى " كتسمية مجازية لفئات الفلاحين والرعية والقبائل لكي تدخل الزمن الجديد يدخلون الجيش والوظيفة العامة ويؤسسون الأحزاب ويشاركون في الحكومات، هنا تحقق هدف الثورة. أما محاكمتها بمعيار تحقيق الأهداف الستة والانتكاسات التي واجهتها والاستبدادات التي آلت اليها فمقياس ظالم لان هذه مهمة الزمن الجديد الذي فتحت أبوابه.
وحدة اليمن في 22 مايو حققت هدفها بإنجاز حلم اليمنيين في توحيد يمنهم في كيان واحد يشمل تاريخهم وأرضهم وهويتهم.
الصراعات والحرب والتعثرات التي تلت الحدث الفارق لا تصلح مقياسا لمحاكمة الوحدة بل تمثل مهمة الزمن الجديد الذي تلاها وقد كانت انتفاضة اليمنيين في 2011 الخطوة الكبرى لإصلاح هذا الاعوجاج.
وضع الجنوب الان كهوية مقابل هوية هو الذي أنتج التشبث بمقترح الفيدرالية بيت شطرين. أي انه توهم أنتجته لحظة غضب لا يرى حلا للقضية الجنوبية الا بوضعها في تناقض مع الوحدة اليمنية ومقتضياتها.
يرفض هذا الذهن الانفصالي القبول بأقاليم في الجنوب وخصوصا حضرموت محذرا من التفريط بمنجز توحيد الجنوب كون هذه الأقاليم ستفتح باب اعادة انتاج السلطنات في ظروف غياب الدولة والتمزقات الاجتماعية. بينما ينافح لإقرار تقسيم اليمن إلى أقاليم تعيد انتاج الكيانين الشطريتين في أحسن الأحوال أو تعيد انتاج الشطر الجنوبي مع قذف الشمال في شبكة الأقاليم ذات الطابع المذهبي والطائفي. أي أن تقديمه لمقترح الدولة الاتحادية باعتبارها الصيغة المناسبة للحفاظ على الوحدة اليمنية مضلل ويؤدي إلى الانفصالات والاقتتالات والانقسامات.
يقول كلود ليفي شتراوس ان وجود الأمة الموحدة لا يقتصر فقط على وجود الدولة التي كانت نتاجا للرأسمالية والسوق خلال الـ500 سنة الماضية. وإنما أيضا بملاحظة تواتر التوحد والصراع في التاريخ القديم بين كيانين أو ثلاثة كيانات في رقعة جغرافية واحدة تشمل هذه الكيانات المتناوبة على التوحد والانفصال والصراع من اجل النفوذ والتوحد مرة اخرى في نفس المتحد التاريخي. هذا التوصيف ينطبق على تناوبات التوحد والصراع الذي ميز الحضارات اليمنية القديمة ومكوناتها "سبأ، وحمير، وحضرموت" والتي تلتها في مراكزها المدنية؛ صنعاء، الجند، زبيد، حضرموت، جبلة، عدن.
هذا التنوع والتعدد هو اليمن وليس دليل تشظي اليمن. وإنجاز الدولة هو الخدمة الكبرى التي يسديها اليمنيين لحاضرهم وتاريخهم ومستقبلهم.
جملة تعسفية !!
" القضية الجنوبية ليست مقدسة"
جملة متعسفة ومستفزة وتنطوي على خفة في التناول والأهم أنها تستدعي ثنائية قياس مقحمة وليست في محلها.. أليس كذلك؟
طيب.. نفس المنطق ينطبق على من يستدرجنا إلى نقاش الوحدة وفق الثنائية المقحمة؛ التقديس والتدنيس.. قفزت الجملة إلى ذهني في محاولة للقياس ومساءلة الذهن المتخفي وراء هكذا استدعاءات مضللة.
في الناسفة الاولى يمكن أن يرد أحدهم : القضية الجنوبية تقاس بمقدار عدالتها.
الوحدة ايضا تقاس بدلالة عدالتها "قيمتها الوجودية لليمنيين وهويتهم وتاريخهم وأرضهم ومستقبلهم" ككيان وطني وليس بالسجل السيء لممارسات المتنفذين في نظام صالح والشبكات النفعية التي أحاطت بهم واستخدموها وانتفعت منهم.
كل هذه الممارسات يتم تغييرها بإيجاد الدولة الوطنية دولة القانون وشكل النظام السياسي وليس بوضعية تناقض بين القضية الناشئة عن حالة متغيرة والحالة الوجودية المرتكزة على معطيات غير آنية.