عند بدء لقاءات فندق «الموفينبيك»، شرق العاصمة صنعاء، في 18 مارس (آذار) 2013، تمنى اليمنيون أن تكون إيذانا لانطلاق نحو تسويات تاريخية تعيد اليمن إلى مربع الهدوء النفسي والسلم الاجتماعي والاستقرار الأمني، ولم تكن التمنيات مبنية على أكثر من الرغبة في الخروج من دائرة الإحباط الذي اجتاح الجميع دونما استثناء إلا من رحم ربي، وتعلق هؤلاء بقشة المبعوث الأممي الذي واجه اتهامات بأن حالة من الغرور انتابته وبلغت حد تسفيهه كل من وجه إليه نقدا عن أداء تهاوت قيمته وخف بريقه يوما بعد يوم، وتسبب هذا في أن أصبح عرضة لهجوم لاذع من الشباب غير المؤطر حزبيا، ومن كل من بدأت أحلامهم تتحول إلى روايات لا تحتمل التأويل لاختلاط غثها بسمينها، وكان يستعين على الجميع بعصا مجلس الأمن الذي فرض وصايته الكاملة على اليمن.
يوم الأربعاء الماضي أعلن السيد محمد علي أحمد رئيس ما عرف بفريق «الحراك الجنوبي» الانسحاب نهائيا من «الموفينبيك»، مستبقا بيان مجلس الأمن الذي عقد في نفس اليوم مع فارق التوقيت الزمني بين صنعاء ونيويورك، وبرر ذلك بتدخلات في أعمال الفريق وخلق انشقاقات داخله ووجه الاتهام إلى المبعوث الأممي والفريق اليمني المناط به الأعمال الإدارية لتواطؤهم بحسب ما جاء في تصريحاته، وإذا صح ذلك فمن العسير معرفة الجهات والأسماء التي لمح مبعوث الأمين العام إلى أنه قدمها إلى مجلس الأمن ليتخذ قرارا بشأنها، ومن هم الذين منحهم شهادات التقدير واستثناهم من تهديداته، كما أن اقتحام الفريق الإداري لحلبة الخلافات بين المكونات ودخوله طرفا في نزاعاتها أبعد عن موظفيه صفة الحيادية وتفرغ عدد منهم للظهور الإعلامي وإلقاء المواعظ والإعلان عن نسب النجاح والتقدم في سير أعمال اللقاءات وعقد المؤتمرات الصحافية للحديث عن قضايا ليست من اختصاصه وخارجة عن المهام المكلف بها.
من المفيد هنا أن نطالع الأسلوب الذي يعتمده السيد الأخضر الإبراهيمي في تناوله للملف السوري وابتعاده عن لغة التهديد والوعيد وعدم الاستقواء بجانب ضد آخر ولم نسمع له تصريحا واحدا يضعه في صف فريق ضد آخر أو يهددهم بمزبلة التاريخ، وهذا درس رفيع في الدبلوماسية اكتسبه الإبراهيمي بحكم ثقافة عميقة وتجربة طويلة في الساحة الدولية، ولم تتلوث سمعته بأي قضية فساد في أي مؤسسة عمل بها مما ساهم في إعلاء شأنه وجعله مقبولا للتصدي لمهام دولية عديدة أشد قسوة وتعقيدا كأفغانستان والعراق.
القرار الذي اتخذه جزء من الفريق الجنوبي يؤكد الصعوبات التي اعترضت مؤتمر الحوار الوطني من يومه الأول، والتي أشرت إليها في مقالات سابقة، ولكن المؤسف أن الأحزاب الرئيسة انطلقت من زاوية انتهازية بالغة الحدة، وتغاضت عن كل الأخطاء والتجاوزات ولم يكن الصمت عن قناعة بل حفاظا على المكاسب الحزبية التي حققتها في كل موقع حكومي استولت عليه وقامت بتوظيف أنصارها فيه.. بل إنها صمتت وغضت الطرف عن التهيئة التي كانت واجبة التنفيذ قبل البدء ولم تعترض على الإرباكات التي يزعم الكثيرون أنها كانت متعمدة ولا علاقة لها بآمال الناس وتطلعاتهم، وذلك بغرض إبطاء الحوار وإدخاله في قضايا خارجة عما هو مطلوب منه، كما انشغلت هذه الأحزاب بقضايا جانبية أثارت المزيد من القلق وانعدام الثقة.
استنزفت لقاءات «الموفينبيك» جهدا كبيرا وكان من المتوقع أن يكون الوجود والاهتمام الدوليان حافزا للإنجاز والسير بالعملية السياسية نحو إحداث التغيير المنشود، ولكن الجشع الحزبي مقرونا بإغواءات وبريق الحكم، جعل الجميع ينشغل بما لا علاقة بهموم الناس وقضاياهم الحقيقية، ولعل النظرة السريعة إلى واقع التدهور الأمني والحالة الاقتصادية التي لم تتخذ الحكومة الحالية - التي اتهمتها المؤسسات الدولية وحتى الأحزاب المشاركة فيها بالفشل - إجراءات تعيد الثقة في أدائها، تشير إلى ذلك، وليس من الحكمة الاستمرار في استخدام المفردات العتيقة لاتهام كل منتقد أو صاحب رأي مخالف أو مختلف، وتوجيه أصابع الاتهام إلى الإعلام بأنه يضخم الصورة ويلبس النظارات السوداء، ومن العجيب أن هذه التهم كانت في الماضي القريب محل سخرية من الذين يطلقونها اليوم!
قراءة بيان مجلس الأمن تؤكد صعوبة التوصل إلى وضع أسماء أو جهات بعينها واعتبارها معرقلة، لأن في ذلك اقتحام مساحات قد تجعل من الصعب تنفيذ العقوبات من دون أدلة مادية محققة ومثبتة، رغم أن لوائح مؤتمر الحوار التي وضعها فريق دولي متخصص تحدثت عن احتمالات انسحاب مكون أو أكثر، ووضعت لهذه الحالات آثارا على مجريات العمل في الفرق، ولا يقلل من خطورة الموقف ما صدر من الكلمات على لسان المبعوث الأممي وعبر فيها عن ضيقه من الانتقادات الموجهة إلى أدائه الذي وصفه صحافيون يمنيون لامعون بأنه شديد الحساسية تجاه الانتقادات، وبدلا من تقبل الانتقادات تعامل مع المسألة وكأنما الانتقادات موجهة إلى الرئيس هادي وليس إليه شخصيا، وفي ذلك تذاك على العارفين بالواقع السياسي اليمني ومحاولة لإقحام الرئيس في هذا المقام، كما كان مستغربا أنه بدا وكأنه منح نفسه مهمة تفسير المبادرة الخليجية وأعطى نفسه مهمة مفتوحة الزمن، متجاوزا ومستغلا صمت الذين صاغوها والذين وقعوا عليها وأطلقوا عليها الآلية التنفيذية «المزمنة»، وهو تصرف لا يتسق مع مهمته التي تقتصر على تيسير العمل لا أن يكون موجها له ومهددا للمشاركين فيه.. كما أنه أعاد فتح الباب على مصراعيه أمام مسألة العزل السياسي الذي يضع الجميع من دون استثناء، بصيغته الحالية، تحت المجهر. لقد منح المبعوث الأممي نفسه صلاحيات تقترب من المطلقة لتحديد كيفية إدارة شؤون البلاد وتحديد أهلية من يحق له الحكم ومن يجب أن يبتعد، حتى أنه علق باستخفاف على انسحاب جزء من فريق الحراك الجنوبي مما يوحي بالسعادة والرضا للتعامل مع من تبقى منهم في «الموفينبيك».
الأيام المقبلة شديدة الحساسية ويجب التعامل معها بروح يمنية خالصة بعيدة عن التأثيرات الخارجية أيا كان مصدرها، فمن المعروف أن الفرق التابعة للأمم المتحدة يسعدها استمرار المهام المناطة بها، خاصة إذا وجدت تمويلا مجزيا للعاملين فيها. والرئيس هادي قادر، بما هو متاح له في الدستور، أن يغلق هذا الباب وأن يستغني عن فتاوى الداخل والخارج، وليس بحاجة إلى تفسيرات للمبادرة، إذ إن النصوص الحالية كافية كي يستمر حتى إجراء انتخابات رئاسية وقبلها برلمانية ومحلية، وبذلك يصبح خارج إطار التعرض للضغوط من أي جهة كانت، ويمكنه وحده أن يجعل اليمنيين يستعيدون الأمل الذي حمله في 21 فبراير (شباط) 2012.