[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

تنامي فكرة الفدراليات غداة الربيع العربي!‏

منذ مطلع التسعينيات بدأ هاجس إعادة صياغة تقسيم المنطقة والمشرق العربي تحديدا فبعد ‏أفول نجم نظام ثنائي القطبية بسقوط الكتلة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة أعقبها جملة من ‏التطورات والتحولات ولم يدرك العرب حينها طبيعة تلك التحولات فكان فخ تسميم العلاقات ‏بين العراق والكويت الذي انتهي بصورة درامية وتورطه بغزوة مجرد بداية لأمتحان ذلك ‏النظام الجديد بعدها استنفذت قوة العراق بحصاره الظالم لنحو ثلاثة عشر عاما انتهى بغزوة ‏وسقوط بغداد حينها دخلت المنطقة فصلا جديدا من التحولات فبعد سنوات عجاف على سقوط ‏بغداد اندلعت ثورات الربيع العربي فلم يكن العراق الجديد مثال يُقتدي ليتحول لنموذج ‏للديمقراطية في المنطقة بل كانت النتيجة العكس من ذلك ولا مجال هنا لسرد الحالة المعروفة ‏في بلاد الرافدين..‏

‏ واليوم بعد أكثر من عقدين على النظام الدولي الجديد وأكثر من عقد على سقوط بغداد ‏المدوي وفي تقييم الحالة لنرى أن المخططات قد نفذت بدقة سوا في تمرير مشاريع التسوية أو ‏في مفاهيم شكل الدولة الإقليمية فبدلا من الرؤية الصائبة لجوهر الإشكال في العلاقة بين ‏الحاكم والمحكوم فهي لا تختزل في شكل الدولة ولا نوع النظام بل في خلق ثقافة ومفاهيم ‏عملية للديمقراطية وإرساء دولة مدنية يسودها المساواة والعدل والإنصاف دون تهميش ‏وإقصاء للأقليات والأثينيات ونحو ذلك من القيم التي تنادي بها المفاهيم الديمقراطية وليس ‏مجرد مظاهر خادعة على النحو التي سارت به معظم الأنظمة الشمولية ومن هنا فقد أتاحت ‏هذه المعطيات تحولاً غربياً جديداً في تناول القضايا العربية تُجسد في ظهور دعوات لمراكز ‏بحوث ودراسات غربية تعكس الرأي العام قبل أن يمثل الدول ذاتها والتي تزامن ذلك بنظرة ‏تلك القوى للمنطقة بعد نهاية الحرب الباردة وتداعيات أحداث 11 سبتمبر في أمريكا والتي ‏كانت علامة فارقة وتجيء برؤية غربية متوجسة في التعاطي مع هذه الشعوب ومثلت تحولا ‏في العلاقة العربية بإسرائيل بولوج المنطقة العربية وتهيئتها لقبول التسوية والتي انتهت ‏بمحادثات إسرائيلية فلسطينية تبعها بلدان عربية تقاربت مع إسرائيل بل وكبلت بعض دول ‏المواجهة بمعاهدات على غرار اتفاقية (كامب ديفيد) نهاية السبعينيات ،ومنذ ذلك الحين ‏والعرب يستجدون السلام من إسرائيل التي ترفضه لأنها ببساطة تنطلق من موقع اللا ندية من ‏جهة ووفق رؤية ومعادلة لصالحها لذا فهى تطالب بسلام مقابل السلام وليس أكثر من ذلك..‏

‏ وبعد الحرب الثانية على العراق والتي انتهت بسقوط بغداد المدوي والذي أعاد للذاكرة ‏العربية سقوط بغداد على يد هولاكو وسقوط غرناطة ،زاد من ضعف النظام الإقليمي العربي ‏ليصبح أكثر هشاشة أمام المشاريع الغربية كإعادة صياغة المنطقة بما عرف بالشرق الأوسط ‏الجديد الذي تزامن بالفوضى الخلاقة التي هلت مع رياح ثورات ما سمي بالربيع العربي والتي ‏كان مؤملا إنها برحيل الأنظمة المستبدة ستأتي بالديمقراطية والدولة المدنية والحال غير ذلك ‏فقد أفرزت المرحلة إلى ظهور فكرة التقسيم من خلال التسويق لمشاريع الحكم الفدرالي ‏متزامنا مع اهتمام لافت للإستراتيجية الغربية في التعامل مع المنطقة العربية على أساس ‏دعامتين هما الديمقراطية وتمكين الأقليات الأثينية والطائفية وآنذاك استهلت هذه الفكرة ‏بمشاريع فدرالية في العراق حيث أكد دستور( بريمر) على أن لكل محافظتين آو أكثر الحق ‏في تشكيل كيان فدرالي مستقل ولم ينجح سوى في إقليم كردستان للفوراق القومية والثقافة ‏والخصوصية المعروفة في حين اخفق في بقية العراق غدا العنف اليومي والفساد المطلق هو ‏سيد الموقف والعراق إجمالا من سئ إلى أسوأ ذلك أن الإشكال ليس في شكل الدولة سوا كانت ‏فدرالية كانت أو دولة بسيطة وكذا نظام رئاسي أو برلماني فلازال العراق رغم إمكانياته ‏النفطية الهائلة يراوح مكانه بل ويتراجع في كل تفاصيل الحياة بصورة مخيفة ومقلقه.‏

وبعد بضع سنوات من التجربة العراقية اندلعت ثورات الربيع العربي وبدلا من أن تثمر ‏بتحولات ديمقراطية ناهيك عن التحسن الاقتصادي والاستقرار الأمني ونحو ذلك اتجهت ‏للهرولة نحو الفدرالية وكأنها رد فعل لخضوعها لعقود من الظلم والاستبداد وتمحور وتمركز ‏السلطة في مجموعة أو حزب أو طائفة ، ومرد ذلك ليس فقط في تمركز السلطة في الدولة ‏البسيطة ولكن لغياب الدولة المدنية أساسا ففي ظلها ستكون دولة النظام والقانون وبسط هيبة ‏الدولة وآنذاك يتساوى المواطنون في الحقوق والواجبات في ظل دستور يضمن فصل السلطات ‏وديمقراطية تضمن حقوق الإنسان وحريته وكرامته ، وفي أجواء ردة الثورات العربية تزامن ‏ذلك بنشاط إعلامي وفي مراكز البحوث الغربية بتلميع فكرة الفدرالية ودعم المعارضة ‏الريدكالية في تلك البلدان الثائرة حينها تنامت فكرة التجزئة داخل حدود الدول المجزئة أصلا! ‏، جاءت تلك الأفكار والمشاريع في ظل أنظمة جمهورية استبدادية يحكمها ثلة من العسكر ‏المغامرين ، وخلال عقود من تنامي الاستبداد أدى إلى هشاشة البني التحتية لهذا الجمهوريات ‏التي لا شرعية لها حيث تحججت بالشرعية الثورية التي أتت من فوهة البندقية.‏

‏ وعلى مدى أجيال من الاستبداد في أكثر من بلد عربي تزامن ذلك إلى خلافات حدودية بين ‏تلك المجزأ على أساس أثيني أو مذهبي وهو ما يجرى فعلا في ليبيا سوى في شرقها (بنغازي) ‏او على اساس اثيني وهو الأمر نفسه في أكثر من محطة عربية ممن بر بها رياح الربيع ‏العربي فما يسمى بالحراك في جنوب اليمن أو حركة ( الحوثي) في شمال الشمال ، ناهيك عن ‏تقسيم جنوب السودان عن شماله وفي المحصلة فأن معطيات تلك التحولات لم تعكس ‏الاستقرار المؤمل ، كما أن الحالة في سوريا ضبابية بعد ما يقارب الثلاث سنوات وقد تتجزأ ‏هي الأخرى.‏

وغداة اندلاع ثورات الربيع العربي فأنها من وجهة نظر الفكر الغربي قد مثلت تحولا كبيراً ‏حيث اتجهت نحو ترجيح مشاريع فيما عرف بإعادة تشكيل المنطقة على أسس فدرالية وعلى ‏خلفية تراجع واضمحلال الدولة البسيطة وفي ظل مع انحسار دور الايدولوجيا المتزامن مع ‏ارتباك وعجز المجتمعات العربية عن إفراز نخب سياسية ناضجة لتكون بديلا للأحزاب ‏الشمولية المطاح بها..‏

‏ الملاحظ انه عند اندلاع ثورات الربيع العربي بدأت تظهر مفاهيم جديدة في تطبيقات التقسيم ‏والتي يمكن تسميتها ( بالتجزئة داخل الحدود) وذلك يبتع من القناعة بعدم جدوى المشاريع ‏التقسيم في ظل المعادلة الإقليمية المعقدة أصلا ، أما انفصال جنوب السودان فهى قضية قديمة ‏نسبيا ونتائجها تزامنت مع إعلان هذه المشاريع فمعلوما بأن الحركة الانفصالية في السودان ‏لها جذور تاريخية منذ بداية الاستقلال ولكنها عمليا منذ أكثر من عشرون عاما توج باتفاق ‏‏(نيفاشا) في العام 2005 الذي نص على حق تقرير المصير وعليه فأنها حالة خاصة ناهيك ‏على أن جنوب السودان مختلفا أثينياً ودينياً عن شماله ومع ذلك لم يكن الانفصال حلاً ناجعا ‏كما كان مؤملا ، والسيناريو يتكرر ولو بصيغ أخرى في أكثر من بؤرة توتر من دول بلدان ‏الربيع العربي فالأقليات الأثينية والعرقية والمذهبية تطالب بالاستقلال سواء في شرق ليبيا أو ‏شمال اليمن وجنوبه ، المفارقات ان في الحالة اليمنية مطالبات الجنوب على أساس جهوي ‏بينما تمرد الحوثي في شمال الشمال على أساس مذهبي ويجمعهما دعما إيرانياً ! ويعزى ‏تنامي الحراك الجنوبي أساسا هو للتهميش وردا لفشل الوحدة المغدورة والمتفق عليها التي كفر ‏بها اليمنيون في الشمال والجنوب على السواء مع أن الإشكال ليس في الوحدة بل في صانعيها ‏الذين دخلوها بصورة ارتجالية وبروح إقصائية سرعان ما اختلف الفرقاء..وكل الإشكالات في ‏اليمن ليست في شكل النظام ولا في الفدرالية التي تهرول إليها النخب وإنما في غياب الدولة ‏المدنية التي ظلت مجرد قيما افتراضية وحلما يراود الذاكرة الجمعية والضمير اليمني للأغلبية ‏الصامتة للشعب اليمني الذي ظل يتغنى بها منذ من نصف قرن مضى.‏

‏ ولهذا فأن انسحاب ممثلي الحراك الجنوبي مؤخرا من الحوار الذي انطلق منذ مارس ‏الماضي وكان يفترض الانتهاء منه قبل نحو شهرين ، كان انسحابهم مجرد ذريعة حول الجدل ‏في شكل الدولة فدرالية بإقليمين أو بأكثر من إقليم ، مع ان الإشكال الحقيقي ليس ذلك ‏فاليمنيون رغم حكمتهم إلا أنهم عجزوا تشخيص الإشكال ، ولم يدركو خطورة المرحلة التي ‏من إفرازاتها تنامي فكرة الفدراليات في بلدان الربيع العربي ، لقد اعتقد البعض بأن عملية ‏الإصلاح والنهوض والتطلع نحو الحرية هى من بوابة الفدرالية مع ان إشكالات تلك البلدان ‏تكمن في غياب الدولة المدنية التي يتساوي فيها المواطنين في الحقوق والواجبات دون تهميش ‏او إقصاء، دولة يسودها القانون والإنصاف وبسط نفوذ الدولة ، اليمنيون ضيعوا بوصلة ‏اكتشاف الداء بما بالك بالدواء ...‏

عجبي لأمة تتنازع فيما بينها فتتحايل على الجغرافيا في غفلة من التاريخ فتعاقب الأرض ‏بالتقسيم بسكاكين الساسة فقط إرضاء الطامحين لسلطة في دُول الطوائف، فبئس الكرسي ‏الذليل!‏
[list=numbers][/list]

زر الذهاب إلى الأعلى